• ×
الإثنين 29 أبريل 2024 | 04-28-2024
جلال داوود ابوجهينة

نحن كدة

جلال داوود ابوجهينة

 0  0  1793
جلال داوود ابوجهينة
القاهرة ..ستينيات القرن المنصرم.
واحد بلدياتنا .. منحه الله وسامة في محياه .. ومكرا ودهاءا في عقله .. رضعهما من فهلوجية مقاهي السيدة زينب .. والمطرية والفيشاوي ..
أدخله أبوه الأزهر، ولكن تم فصله قبل أن يكمل شهرا واحدا.

قصد ضمن ما قصد في تاريخه الحافل ، ( معلمة ) أرملة بها بقايا جمال، وهي معلمة تملك قهوة كبيرة في إحدى أحياء القاهرة التي تعج بالسودانيين ..
تجلس متربعة على كرسي ماكن .. تدخن ( شيشة ) محشوة بالمعسل ماركة ( زغلول ) ..
تعطي أوامرها لصبيانها وكمية من المصوغات الذهبية لها وقع الصاجات في أيدي الراقصات في ملاهي شارع محمد علي و الهرم ..
شاهدها زولنا ذات يوم وتأبط أمرا.
تملقها.. تملقا مدروساً بحنكة ودهاء شديدين
يجلس مبتسما في ركن قصي .. وهو الذي يمتاز بأسنان أمامية كبيرة وناصعة البياض ..
ثم يطلق ابتسامته التي تشع من على البعد تجاهها .. فتلمع كالبرق الخاطف من بين أسنانه ناصعة البياض وبشرته الشديدة السمار .. ( بورتريه أخّاذ ) ...
ويرمش بعينين بريئتين واسعتين ..
تسأل صاحبة القهوة صبيانها : ( هو مين سمارة دة اللي عامل لي فيها كازانوفا يا واد ؟ ) ..
أتاها ذات يوم بكل أدب ..
مطأطئ الرأس .. كسير النظرات ..
ونفث فيها مكره كما أفعى مجلجلة..
فهو أملس كالثعبان ...
دلق عليها كل ما في جعبته من دهاء ..
صب عليها تودده ..
أحاطها بثوب التزلف ..
وهي مبهورة بهذه الوجاهة السمراء ..
( يا سمارة إنت بتجيب الكلام دة منين ؟ أنا كنت فاكرة البرابرة ما بيعرفوش الكلام اللي زى العسل دة ) ..
وصار زولنا يتقرب ويزداد كل يوما قربا ..
أفردتْ له كرسيا بجانبها ..
- ( هات حلبة حصا يا مقصوف الرقبة لسمارة ) ..
ويشرب زولنا هنيئا مريئا ..
و تنهال أوامر المعلمة لصبيانها ..
- كركدي .. يا أبن المعفنة لسمارة
فيقرطع زولنا هنيئا مريئا ويكرّع في وجه الصبيان المقهورين المغيوظين ..
- مغات .. يا أهبل هنا لسمارة
فيشرب بربرينا ويزداد كل يوم نضارة ...
- قهوة .. يا مدهْول لسمارة
- ليمونادة .. يا مفعوص لسمارة
وصبيان المعلمة يرمقونه بغضب وحقد ..
وتطورت علاقة زولنا بالمعلمة ..
فأنقلب الاستلطاف إلى إعجاب ..
ثم ( تدهورتْ ) الحالة إلى حب ..
ثم إلى عشق ..
ثم إلى ريدة عديل كدة ..
فقالت له : أسمع يا سمارة .. أنا والحمد لله ربنا فاتحها علي والحالة تمام .. وعندي شقة كبيرة فوق القهوة مفروشة من مجاميعو .. وزوجي المعلم مات وما خلفتش يعني ربنا ما أرادش.. ومافيش راجل ملا على حياتي زيك .. إيه رأيك ... ؟
لم يضيع زولنا الفرصة .. فهي التي إنتظرها طوال هذه المدة .. متربصا ..
قال بخبث دفين : بس أنا خايف الناس يقولوا داخل على طمع
قالت و هي تخبط على صدرها الممتليء ذهبا و شحما : حد يستجري يقول كدة .. أنا أقطع لسانو من لغاليغو ..
وافق بثقل مصطنع .. وفي دواخله تعربد فرحة كبيرة .. فقد أقترب من خطته التي رسمها ..
لم يدفع قرشا أحمرا ..
قامت المعلمة بدفع كل التكاليف ..
دخل بمجهوده الشخصي ..
فهو شاب في عنفوان الشباب وهي تعدت الأربعين .. بها مسحة من الجمال لا تخطئها العين ..
يأتيه الأكل و هو يرتدي ( البيجاما المخططة ) ..
من الحمام إلى غرفة النوم إلى السفرة و بالعكس ..
يحتسي البيرة الباردة صيفا ..
و الكونياك شتاءا ..
يشخط وينهر في صبيان المعلمة بسبب و بدون سبب : يا أولاد بمبة يا أولاد الذين .. وين المطلوب ..
ثم تذوق الأفيون والحشيش ..
نامت المعلمة في عسل سمارة ..
قام بتخديرها بكلامه عن الخلفة : يا ريت يا معلمة ربنا يكرمنا بس بولد واحد ..
فكبر في عينيها ..
فتحت له حسابا بإسمه في البوستة ، فكبر رصيده.
أصبح (راجل البيت) الذي بيده مقاليد الصرف.
يلبس بنطلونا وقميصا فتضع عليه ( عباءة ) من الجوخ الأصلي كان لزوجها المرحوم .. و يحمل عصاه المطعمة بالصدف و الفضة .. و يجلس على القهوة وسط حسد الجالسين و المارين ..
كان يخشى أن يأتي يوم تنقلب عليه المعلمة قبل أن ينفذ ما قرر فعله.
لذا كان يتحاشى مناكفتها أو حتى الجأر بالشكوى مهما كان الأمر.
استمرأت فحولته و تمادتْ في حشوه بكل ما لذ وطاب ..
فتكوَّر خداه و لمعتا و ازدادت سمرته لمعاناً
وبرزت كرشه .. وغلُظتْ رقبته
حمام بالفريك
صواني اللحم بالفرن ...
كباب
طواجن السمك
تمرمغ في رمال الأسكندرية و رأس البر
قالت له يوماً و هي تلْقمه حمامة محشوة بالأرز : أوعى يوم تفكر تسيبني .. أنا أقطعك و أرميك في البدرون زي ريا و سكينة ما كانوا بيعملوا ...
ثم واصلتْ : إنت فاهم يا سمورتي
قالتها و هي تخبطه بيدها على صدره
لأول مرة يرتعد خوفا قربها ..
فلم ينم ليلتها ، جلس يفكر في الهروب بعد أن يقبض ثمن تخطيطه وتضييع زمنه معها.
هكذا كان تفكيره

ثم نضجتْ الفكرة التي اختمرت طويلا في رأسه ..
خطط .. وحسب حساب كل شيء ..
و في غمرة زحمة القهوة أول الشهر .. حيث الزبائن متكدسون داخل و خارج القهوة ..
ربط زولنا عدة ملايات مع بعضها البعض ..
ثم ربط طرف الملاءات بالسرير الضخم الذي يتوسط الغرفة ..
ثم إنزلق من الشباك نحو رصيف الشارع..
و عندما وطئتْ قدماه الأرض .. سمع صوت المعلمة : و حياة روح أمك يا بربري يا أسود .. دة أنا حأخلي يومك كحل ...
و رأى معها إثنين من الصعايدة و كل واحد فيهم في حجم شجرة الجميز و شنب الواحد زى ( كُليقة البرسيم ) ..
كان هذا آخر شيء يتذكره قبل أن يجده بعض أهله مرميا بالقرب برميل الزبالة عند طرف الشارع ..

أخونا الآن يعيش شبه متصوف في الحاج يوسف ..
أمازحه أحيانا :
بالله ما إشتقت للحلبة حصا ؟
فيبتسم إبتسامة مريرة .. يتحسس آثار كدمة قديمة خلَّفتْها أحداث تلك الليلة ...

امسح للحصول على الرابط
بواسطة : جلال داوود ابوجهينة
 0  0
التعليقات ( 0 )
أكثر

للمشاركة والمتابعة

تصميم وتطوير  : قنا لخدمات الويب

Powered by Dimofinf CMS v5.0.0
Copyright© Dimensions Of Information.

جميع الحقوق محفوظة لـ "كفر و وتر" 2019