• ×
الإثنين 29 أبريل 2024 | 04-27-2024
جلال داوود ابوجهينة

نحن كدة

جلال داوود ابوجهينة

 0  0  1270
جلال داوود ابوجهينة
عنترة العبسي .. هذا الفارس الأسود .. يقال أن أمه جارية سوداء من جواري بني عبس .. قاسَى كثيراً لينتزع إعتراف أبيه به .. ومما زاد الطين بِلة .. هيامه بإبنة عمه عبلة .. ثم إستغلال عمه لهذا الحب والهيام ليدعم به المجهود الحربي للقبيلة ويحميها بشجاعة عنترة المندلقة تحت أقدام عبلة.
خواطره تتعلق بأهداب وطننا.. وشعره يتنفس خلجاتنا شهيقاً وزفيراً.. وبصفة خاصة المغتربين في الأرض.
قال عنترة في معلقته الشهيرة :
هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَـرَدَّمِ *** أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ
الشعراء بلا شك هنا يعادلون المغتربين في الأرض .. فمن كثرة توهانهم وفقدانهم لتوازنهم صاروا يهيمون في كل بلد كصعاليك الشعراء ...و(المُتَرَدَم) هنا هي شوارعنا التي كلما رَدَم أحد الوُلاة الحُفر والشقوق التي بها .. جاء الخريف الذي بعد الردْم مباشرة فيفضح مكنونات الردْم فيُعَرِّيها من الطبقة التي في سماكة ( الكِسْرة) .. فتفتح الحفرة ( خشمها ) وتقول : هل من مزيد.؟ فالشاعر يتساءل هل غادر المغتربون أصلاً هذه الشوارع المردومة ؟ لأن أهلهم يعانون ويعانون حتى موعد إجازاتهم لمشاركة أهلهم المعاناة نفسها.( هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَـرَدَّمِ ).
وهنا الشاعر بحسه السوداني المتقدم بعدة سنوات ضوئية والذي سبق عصره وزمانه ، يذكرنا بغربتنا التي نعود منها فنجد أن منزلنا الذي كان يقع ناصية .. أصبح (تالت) ناصية بقدرة قادر بعد أن تم بيع الميدان ، حتى لاصقتْ البيوت شارع الظلط. حتى أنني والله في إحدى الإجازات لم أتعرف على منزلي الذي بنيته طوبة طوبة وبجهد السنين. فقد إنحشر إلى الداخل بعد أن كان ناصية. فإذن الغربة عند شاعرنا عبارة عن (تَوَهُّمِ) ليس إلا ونحن عبارة عن ناس ( وَهَم ساكت): ) أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ )
وَلَقَدْ حَبَسْتُ بِهَا طَوِيلاً نَاقَتِي *** أَشْكُو إلى سُفْعٍ رَوَاكِدِ جثَّـمِ
الناقة هنا تعادل (العربية الأمجاد) التي تلف وتدور حول منزلكم بسبب ( رواكد ) الماء التي جثمتْ على صدر الشارع .. فلا أنت تستطيع النزول .. ولا صاحب ( الأمجاد) يسكت بل يزيد (نِقَّتِه) لأن المبلغ المتفق عليه أقل من هذه اللفلفة والدوران بسبب برك الماء ، إذن أنت ( حبستها و حبسته طويلاً ).
فَوَقَفْتُ فِيهَا نَاقَتِي وَكَأنَّـهَا *** فَدَنٌ لأَقْضِي حَاجَـةَ المُتَلَـوِّمِ
طبعاً طالت المدة وأنت كمغترب مكنكش في ( الأمجاد ) وما شاء الله ( الكِلْيَتين ) شغالات تمام بفعل السوائل ( حرامها وحلالها والتي بيْن بيْن .. كالشربوت ) .. وتضخَّمتْ المثانة وتريد أن تقضي حاجتك فلا تجد إلا أقرب حيطة فتُولي ظهرك للشارع المعطون موية وتزيد جراثيمه جراثيماً مستوردة ورغم أنك (مُتَلَـوِّم) في هذا التصرف غير الحضاري .. إلا إنك معذور ( قطِع شك ) ..
وَتَحُلُّ عَبْلَـةُ بِالجَـوَاءِ وَأَهْلُنَـا بِالْحَـزْنِ فَالصَّمَـانِ فَالمُتَثَلَّـمِ
(الجَواء) منطقة سكن عشوائي غير مخططة ، يسْرَح و يمْرح فيها السماسرة دون حسيب أو رقيب.. سكنتْ حبيبة القلب في ( الجواء ) قبل أن تنتقل إلى مكان آخر هرباً من واحد شَرَّامي يريد زواجها قسرا وبالعافية.. أما الأهل فسكنوا أول ما سكنوا (بالحّزَن) التي هي منطقة (الشجرة) .. ثم لظروف مالية قاهرة تتعلق بسوء معاملة الكفيل الخليجي لإبنهم الوحيد وهضم حقوقه وبالتالي لم يرسل المصروف لعدة شهور.. فتقهقروا إلى (الصمان) التي هي العزوزاب .. وما أن استقروا هناك حتى تقهقروا مرة أخرى إلى (المُتَثَلَّـمِ) التي هي حى شبه عشوائي... وذلك بسبب جارتهم التي يتلبسها الظار من حين لآخر.
حُيِّيْتَ مِنْ طَلَلٍ تَقادَمَ عَهْدُهُ *** أَقْوَى وَأَقْفَـرَ بَعْدَ أُمِّ الهَيْثَـمِ
(طلل) هي بقايا بيتهم في قريتهم الذي ورثوه عن جدهم .. ولا يضاهيه قوة و متانة إلا (حَبُّوبْتَن) ليهم بيقولولها ( أم الهيثم) .. وِلْدوها بي (سنونا) وماتت بي (سنونا) ويقال أنها كانت تَكُد الدوم الناشف وتنهشه كما لو كانت تستعمل منشارا كهربائياً. ولما ماتت يقال أنهم خموها في قفة عشان يدفنوها (لأنها كانت مكوَّمة بعد أن أصابتها هشاشة عظام في أواخر عهدها بالدنيا أم قدود).
حَلَّتْ بِأَرْضِ الزَّائِرِينَ فَأَصْبَحَتْ *** عَسِرَاً عَلَيَّ طِلاَبُكِ ابْنَـةَ مَخْرَمِ
حبيبة القلب كان أبوها دائماً خرمان ومتقريف ورغم هذا ( يَشْحَد ) السفة من اللي يسوى واللي ما يسواش حتى إشتهرتْ إبنته بـ ( إبنة مَخْرَم ) .. والله أعلم .لأن هناك رواية أخرى تقول أن كلمة (مخرم) جاية من كلمة ( خُرُم) .. و عليكم بالقياس على ذلك .. وهلم خرما ..
كَيْفَ المَزَارُ وَقَدْ تَرَبَّعَ أَهْلُهَـا *** بِعُنَيْـزَتَيْـنِ وَأَهْلُنَـا بِالغَيْلَـمِ
بدَّلتْ الحبية مكان سكنها فسكن أهلها بعنيزتين ( وهو مكان قريب من عِدْ بابكر بدأها أول مَن سكن بها بغنمايتين والآن يملك قطيعا يسد عين الشمس ) والغيلم هو مكان الدهماء والغوغاء حيث تتوقف مواصلاتهم بعد كل مطرة. والكلمة مكونة من كلمتين ( غَىْ) و هو الضلال و (لَمْ) و هو الخَم .. حيث كان سكان المنطقة يبرعون في عمل كل ما ينعتهم بالضلالة .. ثم أُدغمتْ (الغَىْ ) في (الَلم) فصارت كلمة واحدة حسب رغبة المسئولين بمحلية المنطقة.
مَا رَاعَني إلاَّ حَمُولَـةُ أَهْلِهَـا *** وَسْطَ الدِّيَارِ تَسَفُّ حَبَّ الخِمْخِمِ
والد المحبوبة رجل عصامي في مجال التحميل.. بدأ حياته بعربة كارو ( قبينة واحدة ) يجرها حمار.. وعند رحيلهم خاف صاحبنا من منظر الحمار المربوط في طرف الكارو وهو يسفسف في (عليقة) عبارة عن خليط من الرماد المخموم من تحت الدوكة ومن حفرة الدخان ( حمار ما عندو قشة مرة )...
وَخَلاَ الذُّبَابَ بِـهَا فَلَيْسَ بِبَارِحٍ *** غَرِدَاً كَفِعْلِ الشَّـارِبِ المُتَرَنِّـمِ
الحى الذي يسكن به زولنا وككل أحياءنا ، حيث أنفرد الذباب بالجو وأقسم بأن لا يبارح هذه البيئة المثالية .. فصار (ينوني) كالسكران الشارب كاسين ويقعد يدندن و يترنم بأغنية حقيبة. وهو الذباب المعدَّل الأزرق اللون الذي كان يمارس هواياته هذه نهاراً جهاراً ولكن يبدو أنه إنطلاقاً من الحفاظ على حقوقه كاملة فقد صارت له وردية ليلية يباشر عمله حتى بواكير الصباح لتواصل وردية أخرى عملها طيلة النهار دون كلل أو ملل.
هَزِجَاً يَحُكُّ ذِرَاعَـهُ بِذِرَاعِـهِ *** قَدْحَ المُكِبِّ عَلَى الزِّنَادِ الأَجْـذَمِ

الذباب لا يحك ذراعه بذراعه إلا أن شبع تماماً ووقف (لَطْ) .. تماماً كالذي يدنقر منشغلا لإشعال سيجارته من ولاعة (معصلجة) في عز الكتاحة. والزناد الأجذم هو الولاعة التي لا تولع إلا بعد يلتهب أصبعك الإبهام من كثرة المحاولات ..
تُمْسِي وَتُصْبِحُ فَوْقَ ظَهْرِ حَشِيَّةٍ *** وَأَبِيتُ فَوْقَ سَرَاةِ أدْهَمَ مُلْجَـمِ
الشاعر هنا عاوز يخلي العين تعلو فوق الحاجب .. فيحسد عبلة بنت الأكابر على نومتها فوق الحشية ( المرتبة المحشوة بريش النعام ) .. ويتعجب من نومته على سرج حصانه الأسود.

أَثْنِي عَلَيَّ بِمَا عَلِمْتِ فَإِنَّنِـي *** سَمْحٌ مُخَالَقَتِي إِذَا لَمْ أُظْلَـمِ

الزول دة يبدو أنه كان ديمقراطياً وبيحب الراى الآخر ومَثَله الذي يحتذي به هو: ( العديل راى والأعوج راى ) فها هو يقول للمحبوبة : أشكريني بالشيء الذي عرفتيه عني فأنا سمح الأخلاق حتى مع من يخالفني الراى .. ولكن إذا ظلمني أحد .. فليطالعني الخلا ..
فَإِذَا ظُلِمْتُ فَإِنَّ ظُلْمِي بَاسِـلٌ *** مُـرٌّ مَذَاقَتُـهُ كَطَعْمِ العَلْقَـمِ
أها .. جاب الفيهو الفايدة ..
وَلَقَدْ شَرِبْتُ مِنَ المُدَامَةِ بَعْدَمَـا رَكَدَ الهَوَاجِرُ بِالمَشُوفِ المُعْلَـمِ
عنترة كان من النوع ال مزاجو عالي جداً .. فلا يشرب المنكر إلا بعد هجعة الليل وسكون الجو.
(المشوف المعلم) هو الحى الذي كان ينسرب إليه ( ناس الكيف ) ليلاً بعد أن تسكن الحركة .. دون أن ( يشوفهم أحد ) ودون أن يتركوا خلفهم أي ( علامة ) لخروجهم .. لذا أسموها ( المشوف المعلم) ..
بِزُجَاجَةٍ صَفْرَاءَ ذَاتِ أَسِـرَّةٍ قُرِنَتْ بِأَزْهَرَ في الشِّمَالِ مُفَـدَّمِ
لا يوجد هذا اللون من المنكر إلا عندنا ..خصوصاً أيام ( الشري ) و البارات و الإندايات.. فكانت هناك أنواع ملونة .. شري أبو رحط .. أبو ديك .. أبو حمار ..
أسرة جمع سرير .. و هنا إستعملها الشاعر كجمع لكلمة سر .. فالزجاجة تهمس للشارب بأسرار لا يفقها إلا شارب الصنف .. أما (الأزهر في الشمال مفدم ) هو كيس الترمس .. و لم يقل الأزهر في اليمين لأن الكأس مجراها اليمين .. و في رواية أخرى الأزهر المفدم فول الحجات ( الفول مدمس) بالقشرة ذات اللون الكبدي أو الأحمر .. و أيام عنترة كانت ألوانها زهرية و تبدلتْ ألوانها بفعل التصحر و الجفاف و تهجين التقاوي...
فَوَدِدْتُ تَقْبِيلَ السُّيُـوفِ لأَنَّهَا لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ الْمُتَبَسِّـمِ
ما أجمل هذا البيت. ما نقدر نقول فيهو أي شي. الشاعر كأنه يريد أن يقول بمفردة سودانية بحتة : عشان خاتر عيونك .. ممكن أمشي الدفاع الشعبي ذاتو ..
لَمَّا رَآنِي قَـدْ نَزَلْتُ أُرِيـدُهُ أَبْدَى نَواجِـذَهُ لِغَيرِ تَبَسُّـمِ
نوع يخاف و لكنو ما يختشي.
فَبَعَثْتُ جَارِيَتي فَقُلْتُ لَهَا اذْهَبِي فَتَجَسَّسِي أَخْبَارَهَا لِيَ واعْلَمِي
قَالَتْ : رَأَيْتُ مِنَ الأَعَادِي غِرَّةً وَالشَّاةُ مُمْكِنَـةٌ لِمَنْ هُو مُرْتَمِ

عندنا في السودان نقول : فلان دة وكت يِتْفَلْهَم ... بيسوي جيب في السروال ..
و عنترة من غنائم الحرب سوالو جارية ..
يذكرني هذا بشيء غريب جداً .. فكل الذين فاجأتهم النعمة بعد الإغتراب .. يتناسون شظف العيش القديم و كل ما يذكرهم به .. بل يتمادى البعض في البوبار و الصرف البذخي و كأن هذه الغربة شيء مستدام .. و كأنه يضمن دوام الحال الذي هو من المحال ..
ما علينا ..
نُبِّئْتُ عَمْرَاً غَيْرَ شَاكِرِ نِعْمَتِي وَالكُفْرُ مَخْبَثَـةٌ لِنَفْسِ المُنْعِـمِ

هنا عاوز يقول : إن أنت أكرمت الكريم ملكته و إن أكرمت اللئيم تمردا ..
أو بلفظ سوداني ( الحسنة في المنعول .. زى إنفلونزا الطيور ) ..
وَلَقَدْ حَفِظْتُ وَصَاةَ عَمِّي بِالضُّحَى إِذْ تَقْلِصُ الشَّفَتَانِ عَنْ وَضَحِ الفَمِ

أبو عبلة .. اللي هو عم عنترة .. بيحب نومة القايلة .. أو نومة الضحا .. لذا فإن حديثه لعنترة بتكون ما مضمونة وما موثوقة لأنو بيكون كلام زول شايلو النوم و ما بيعرف هو بيقول في شنو .. فتجد شفايفو بيتحركن بالكلام .. لكن الحروف ما بتطلع كويس .. زى الزول ( المسنسن ) بي شربوت غتيت يوم العيد و ضارب أم فتفت و مرارة و كمونية و راسو أتقل من حجر الطاحونة .. وعنترة ما هو هين .. بيحفظ الكلام دة و بيواجه بيهو عمو بين رجالات العشيرة ..
وَلَقَدْ خَشَيْتُ بِأَنْ أَمُوتَ وَلَمْ تَدُرْ لِلْحَرْبِ دَائِرَةٌ عَلَى ابْنَي ضَمْضَمِ

ناس ضمضم ديل كانوا بيقولوا لأبو عبلة ( العبد دة كان إتزوج عبلة دي .. ياها ال بينَّا و بينك .. و بنشيل حالك و حال قبيلتك ) .. أها عنترة هنا بيتمنى ما يموت قبال يداوس الضماضمة ديل ..
الشَّاتِمَيْ عِرْضِي وَلَمْ أَشْتِمْهُمَا وَالنَّاذِرِيْنَ إِذْا لَقَيْتُهُمَـا دَمـِي
إِنْ يَفْعَلا فَلَقَدْ تَرَكْتُ أَبَاهُمَـا جَزَرَ السِّباعِ وَكُلِّ نَسْرٍ قَشْعَـمِ

أها ... و من يومها .. (النسر ) صقر الرمة بيتحاوم عند مشارف كل مضارب فيها ظلم ..
امسح للحصول على الرابط
بواسطة : جلال داوود ابوجهينة
 0  0
التعليقات ( 0 )
أكثر

للمشاركة والمتابعة

تصميم وتطوير  : قنا لخدمات الويب

Powered by Dimofinf CMS v5.0.0
Copyright© Dimensions Of Information.

جميع الحقوق محفوظة لـ "كفر و وتر" 2019