• ×
الإثنين 29 أبريل 2024 | 04-28-2024
جلال داوود ابوجهينة

نحن كدة

جلال داوود ابوجهينة

 0  0  1259
جلال داوود ابوجهينة

عبد الحليم ، زيادة على طين الأرض الخصبة .. إبتداءاً من ذراتها على السطح ،، نزولاً حتى طبقة منسوب الماء ، ورث فيما ورَث ، منجل و طورية ،وعدة بقرات وثورين و قطيعا من الماعز وقطعة أرض سيبني عليها بيتا يأويه مع أسرته ،، حدَد مساحة الأرض العمدة عندما وقف وأخذ حجراً ورماه بكل ما يملك من قوة وبكل ما يحمل من إعزاز لوالد عبدالحليم رحمه الله..... وكان مكان سقوط الحجر هو حد مساحة حوشه المزمع بناؤه. ( لا حاجة لمسّاح أو مكتب أراضي ). فنحن كدة.

النخلات ... هذه ( العمَّات ) الحنينات ،، غرس والده ،، وغرس جده ،، وغرس يديه ، ( تأتي أُكُلها بإذن ربها) في كل موسم دون تأخير أو تقديم ،، كالأمهات يأتيهن الطلق في تلك الأيام الخوالي في موعد محسوب بحساب ظهور القمر واختفائه ،، ينجبن أطفالاً أصحاء ، يظل الحبل السري في ( الشافع ) وكأنه لا زال به مربوطا مهما أشتد عوده وقوِيَ ، وكأنه لا يزال موصولاً بأمه لم ينقطع ، يربـطهم بأمـهاتهم حتى بعد أن يكبروا ويتزوجوا وينجبوا ، فينهلوا منهن تلكم العواطف الجياشة العفوية ، ويشربوا عليها كؤؤسا مترعة من نصائح الآباء وحكمتهم ، وتقف الحبوبات كأسفار وكتب من الحكمة المَرْوية والمتناقلة بقليل من التحريف والتبديل دون إخلال بالمغزى الدفين.

تقف النخلات شاهدة على أن ( القساسيب ) الفارعة الطول كأجساد الأجداد العمالقة ، تقف شاهدة على أنها كانت دوماً مترعة بالقمح والذرة والبتمودة و البركاوي والقنديلة، وشاهدة على أن ( مهور ) كل العرسان في العائلة تم دفعها منها ، ومن خيرات الأرض ( صنوان وغير صنوان ،، دانية القطوف ) ومن محصول التمر رغم وعورة طبقات (العنباج) وغزارة العشميق ووخزات الأشواك المسننة التي تقف مشْرعة على الجريد.

نخلاتنا ،، الباسقات ،، تسبح بحمد الرحمن في الغدو و الآصال ،، تنادي فتياتنا المتشحات ( بالعفاف والطرحة ) ،، أن يهززن إليهن بالجذوع ،، ليتساقط عليهن رطبا جنيا ،، يدر عليهن طيبة في القلب وسماحة في المعاملة وطعاما سائغا لأطفالهن الذين ما أن ينطلقوا مشياً على الأقدام، تتعلق قلوبهم بالمساجد والخلاوي وطين الأرض وموية الدميرة ، . يلبسون عراريقا مصنوعة من الدمورية و ( الوزن عشرة ، يحْلقون ( نمرة واحد ) ويمشون حفاة الأقدام في عز الهجير ،، يحميهم الرحمن من كل ذات شوكة وعقرب وثعبان .
كل الرجال أعمام و كل النساء خالات. ،، يقبلون الأيادي و يلثمون الجباه.
كما ورث عبد الحليم ، على الجروف أمتارا تمتد حتى داخل النيل ،،
يطلقون إسم (جَدِه) على الطريق الضيقة الملتوية التي تخترق (اللوبيا ).
ومن خلال المزروع على الجروف حتى مربط المركب ( المشْرَع )
ويستمر الاسم ملتصقا بهذا الدرب إلى أن يرث الله الأرض وما عليها ومن عليها.

جدران البيوت الطينية ،، تحكي طبقاتها ،، جهد الحبوبات والأمهات والأخوات والجارات ،،
يتجمعن على ( الزلابية واللقيمات ،، وكفتيرة شاى ضخمة تكفيهن شر الانقطاع عن العمل ،،
يتجمعن للياسة الجدران وأرضية الحوش ( يتنادين خفافا وثقالا مثلهن مثل الرجال )،،
مشمرات عن أكمامهن يختلط عرقهن السائل مع الزنجبيل في أكواب الشاى
كل طبقة تحكي عن زمن مضى ،، وجيل يعقبه جيل ..
فنحن كدة لا زلنا وسنكون.

ولو نبش فيها ( عالم جيلوجيا ) وتحدثت الجدران عن مكنوناتها ، لوجد بين طبقاتها قصصا لم تدخل أضابير كتب التاريخ عندنا ،، طبقات تحكي عن ( بنات ) مثل السمحة بت العمدة ( سعدية ) أم شلخا ( زى جدول المالية ) ،،التي كان التغزل البريء بها مباحا ،، حتى صال أكثر من ( جميل بثينة ) في جمالها بتأدب لا يتجاوز خطوط ( الحشمة ). وجال أكثر من ( كثير عزة ) في صفاتها بفخر وإعزاز ،،
فيختلط الغزل بالأدب والعشق بالمباهاة في إعتلاج فريد ...
ولكن شعلة الحب التي تتوهج في قلوب هؤلاء العذارى ،، تظل في القلوب سرا يحرق الخيالات البكر ، يفرهد في الدواخل بأمل يخبو ثم يتقد كفتيل لمبة الجاز في عتمة الحجرة الطينية،،
حتى يأتي أمر العمدة في فرمان شفوي بأن زواج فلانة من علان بعد الدميرة وحش التمر ، ،،
فترضى من ترضى وو ترضخ من ترضخ ،، ولسان الحال يقول : المكتوب في الجبين لازم تشوفو العين
وكم من جبين يظل ناصع البياض من لحظة الميلاد وحتى الممات ، وكم من عين رأت مكتوبا لم ترغب فيه ولم ترض عنه.]

ولوجد أيضاً الباحث فيما يجد لو قام بالتنقيب ،، قصة الداية التي تأتي من طرف الحلة في ليلة ظلماء غاب عنها القمر ، على ظهر حمار ( أعرج ) دونما سرج تعتليه ،، تدلدل رجليها المدسوستين في حذاء ( العروسة المصنوع من البلاستيك اللين ) ، ومحتويات شنطة التوليد المعدنية التي تحتضنها ، في ( رجة و ضجة ) تموسقان خطوات الحمار ، ونباح كلاب الحي تزفها لبيت الحبلى ، معلنة أن الداية في مهمة لتضيف رقما جديدا في إحصائية القرية.

و لوجد المنقبون والباحثون فيما يجدون بين طيات الجدران ،، أن المغترب إلى مصر في ذلك الزمان (الطاعم ) ،، كان يأتي سنويا وقت يشاء ( بلا تصاريح للسفر ) ، يعود محملا بصندوق إسكندراني خشبي (السحارة ) ، وهو غاية الاغتراب ومنتهى الأمل في ذاك الزمان البهي،،فيوزع الكولونيا ،، والصابون و(القمر الدين )،، وأقمشة ( غزل المحلة ) ،، وأقمشة ( الكرب روبر ) وملاياتها ،، ويوزع عشرات الرسائل التي أتى بها من هناك ،، ويأخذ هذه على إنفراد ويهمس لها وصية شفوية من زوجها ،، ويأخذ ذاك في ركن قصي لينقل له رغبة إبنه في الزواج من تلك،،فيحتفي به الرجال بدعوته على ( زير مترع بمشروب الدكاى،، أو النبيت المدفون في باطن الأرض شهورا ) فيتحكر في الجلسة وهو يحكي مغامراته و صولاته و جولاته،،
ويندفع يضيف من خياله الكثير كلما سمع استحسانا من الحضور ،،
وتتوالى الدعوات من هنا و من هناك ،،
و يمتلئ بيته بالحملان والعتان و الدجاج و البيض ( في تكافل لا نظير له )
و لوجد أيضا فيما يجد ،، قصة الحزن الذي خيم على أهل القرية عندما انقلبت المركب في عرض النيل ،،
وغرق عدد كبير من الفتيات الصغيرات ،، وكأن النيل لا زال يرغب في ( قرابينه القديمة ) فأبتلع هذه الزهرات ، فكان في كل بيت مناحة ، وفي كل قلب جرح بليغ ،، يجتر أهل القرية هذه الذكرى الأليمة ، كلما فردوا شراع مركب يمخر عباب النهر الخالد ، و كلما غضبتْ الأمواج فارتفعت مزمجرة تلطم جوانب المركب الخشبي فيتطاير الرذاذ على الوجوه ، و كأنها تنذرهم بأنها لا تزال عطشى للمزيد.

ذلكم هو عبد الحليم .. يوم أن مات والده ،، و ترك له هذا الميراث الذي لا يقدر بثمن ،، وهذه اللوحة الأزلية التي لم تتغير ألوانها على مر الزمان.

وتمر الأيام على ضفاف النيل ببطء لا يجارى سرعة دولاب الحياة في بقاع أخرى من المعمورة ،،

تمر بتراخٍ ، كبطء قواديس الساقية تجرها بقرة حردانة يلهب ظهرها سوط الصبي التربال المدندن بالغناء ،
بطاقيته الحمراء المهترءة و الساقية تئن في إيقاع سيمفوني مع صوته الشجي.

و ذنب البقرة الحرون يروح و يجيء ليهش الذباب وكأنه عصا ( مايسترو ) يقود كورال الساقية و التربال.

من القرية ... سافر سعد ، و جبر الله ، و حامد ، و سر الختم ،،
كلهم سافروا للحاق بركب الكسب السريع و العودة بحقائب تبهر الفتيات ، و ليضوع منهم عطر ( البروفيسي و عطر الكاشيت) ، و تتوهج على معاصمهم خواتم الذهب و الفضة و ساعات ( السيكو و الأورينت ) ،،
و ليعتمروا عمائم من ( التوتال الإنجليزي وارد عبد الصمد ) و ليوزعوا علب الماكنتوش و علب البنسون وولاعات الرونسون و تياب ( أب قجيجة ) و بخور ( الند ) وارد باب شريف بجدة .. ...
و ( عبد الحليم ) صامد لا تغريه المغريات ،
قناعته فريدة ...متشبث بأرضه ،،
حفرتْ أصابعه علامات صبره على مقبض المنجل و الطورية ،
و تزين راحتيه طعنات أشواك النخيل و آثار فتْل الحبال .
الشقوق في كعبيه و قدميه غافل عنها و عن صغائر أخرى.
صلب كصخور ذلكم الجبل الذي يقف شاهدا على أن أحد أحفاد أولئك العمالقة ، ما زال يحمل في جسده جينات الصمود
يقاوم قساوة السموم ،،
و يكرع من ماء النيل العكران بالطمي ،
و لا يشتكي من ( إلتهاب في المعدة ) أو ( جفافا في البشرة )

و رغم هذه الصلابة في العود و هذه القوة في الشكيمة ،،
إلا أنه يحمل بين خافقيه قلبا عامرا بالحب و الوفاء لأرضه و لأهله.
يأتي المسافرون ،،
تنبهر الفتيات ،،
تفرح الأمهات ،،
تحبل الزوجات ،،
تنطلق الزغاريد في زخات معلنة عن زواج ،،
ثم تعود كل هذه الطيور المهاجرة لمنافيها.

و عبدالحليم ،، يستقبل ،،
و يكرم الوفادة ،،
و يودع ،،
ليعود و يستقبل ،،
حركة مستمرة في دولاب أيامه ،،
كحركة مواسم الزراعة ،، المحصول تلو المحصول و كحركة النهر الخالد ،، فيضان و انحسار.
كل من وقف و حمل معه الطورية سافر و هاجر ،،
تركوه لهذه الأرض ،،
يفلح قدر إستطاعته و قدر طاقته ، يحمد الله إن تغدى ببضع تمرات ،، و يشكر الله إن تعشى ( بقراصة يطفو عليها السمن و الحليب )
حاولوا أن يأخذوه معهم ،،
و لكنه رفض ،
و أستنكر محاولاتهم المتكررة ،، و دائما ما يقول لهم و هو يحدق في النهر عبر فرجات النخلات :

أنا و النخلات دي واحد ،، عروقنا ضاربة جوة الأرض و واصلة لغاية النيل .
لو ما غرفْت من موية النيل بإيديْ ديل و شربت ،،
و لو ما أكلت الدفيق المنقرو الطير ،،
و لو ما دخل جوفي الهوا الجايي يهفهف بين سعفات النخيل و قناديل العيش.
ما بحس إني عايش

و يتواصل عشقه لطين الأرض ..
و نخلاته
و جروفه ..
تنتظره محاصيل المواسم .. أو ينتظر هو مواسم المحاصيل ..
كلاهما سيان ..

امسح للحصول على الرابط
بواسطة : جلال داوود ابوجهينة
 0  0
التعليقات ( 0 )
أكثر

للمشاركة والمتابعة

تصميم وتطوير  : قنا لخدمات الويب

Powered by Dimofinf CMS v5.0.0
Copyright© Dimensions Of Information.

جميع الحقوق محفوظة لـ "كفر و وتر" 2019