• ×
الإثنين 29 أبريل 2024 | 04-28-2024
جلال داوود ابوجهينة

نحن كدة

جلال داوود ابوجهينة

 1  0  1460
جلال داوود ابوجهينة
مقدمة : هذه القصة جرت أحداثها أيام كان ( شريط الكاسيت ) يلعب دورا هاما في التواصل في ثمانينيات القرن المنصرم.
***
بعد عدة رسائل إلى زوجها كان يكتبها لها شقيقها الصغير، اعتقدت (سميحة) إلى حد الاقتناع بأنه ربما كان شقيقها لا يستطيع التعبير كتابةً عن كل ما تمليه عليه شفاهةً، أو من المحتمل أن يكون لا يكتب كل شيء ويقوم باختزال كل تعبير تفصح عنه.
وتصر عليه بأن يكتب كل شاردة و واردة من كلامها، ثم تجعله يقرأ ما كتب، و رغم هذا فهي على يقين بأنه ربما يكون قد أخطأ في نقل أحاسيسها بكل عمقه.تشرح له وهي لا تفصح عن كل مكنوناتها وكأنما تريده أن يفهمها ومن ثَم يقوم بتفصيل وتشريح مقاصدها.
أطلقتْ آهة وزفرة طويلة : الله يرحمك يا أبوي، التعليم كان أهمّ لي من الزواج.
انطلقت (لست سعيدة) المعلمة وهي تنوي أمراً حسمته في لحظة حنق وضيق.
شكتْ إليها هواجسها من تقصيرٍ مزعوم من شقيقها حيال نقل كلماتها بصدق إلى زوجها، وطلبتْ منها إعارتها ( المسجل وشريطاً فارغاً ). ..
ابتسمت ( ست سعيدة ) وناولتها ما طلبتْ ومازحتها : أذهبي وأترسي الشريط بال في قلبك كلو.
ليلتها وبعد أن أكملتْ كل أعباءها المنزلية، دلفتْ غرفتها وأغلقته من الداخل وانبطحت على بطنها على السرير الخشبي، ثم تنحنحتْ وتلفتتْ متوجسة وكأن هناك من يسترق السمع.
قرَّبتْ فمها من المسجل وقالت بصوت هامس: ألو .. ألو .. شريف .. إزيك .... أنت سامعني ؟
ثم أعادت الشريط من أوله واستمعت إلى كلماتها وهي سعيدة كما لو اكتشفت عالماً مجهولاً تطؤه بقدميها لأول مرة. فهي لأول مرة تسمع صوتها ينبعث من جهاز أصَم.
ثم بدأتْ حديثها ذي الشجون.
بدأته بشوقها، وبلياليها الطوال وحيدة تحدق في السقف، ورسائلها التي تشك في صياغتها وفي وصولها إليه أصلاً. ثم تخلل شوقها المبثوث ترديدها لمقاطع من أغنيات جديدة لم يسمعها شريف من قبل، ترنّمتْ بها بكل خلجة من خلجاتها، يمازج غناءها مشروع ضحكة على محاولاتها.
قالت في غنج ودلال :
( ما تضحك على صوتي يا شريف .. أوعدك حأرسل ليك الأغاني دي في شريط ) ..
وتواصل التسجيل وهي تفرك قدماً بقدم مستلقية على بطنها تداعب ضفيرة شعرها المنسدلة أمامها.
ثم ذكّرتْه بكل من تزوجن بعدها من الفتيات ثم سافرن إلى أزواجهن في الخليج.
اختتمت الشريط بقائمة طويلة من الطلبات.
ثم أخرجت الشريط وقبّلته من الجانبين، ولفته بقطعة من القماش وخاطته بخيط متين.
وفي الصباح الباكر انطلقت به إلى الحاج (سيد) المسافر لأداء العمرة ليسلمه إلى زوجها.
وقف الحاج (سيد) يلوح بيديه مودعا، ولولا حياءها لهتفتْ بالحاج (سيد) من وسط الجموع أن يضع الشريط جنباً إلى جنب مع ( جواز السفر الخاص به ) إمعاناً في أن يكون محفوظاً ومصاناً.
ظلتْ تترقب الرد، إما بشريط مماثل، أو أن يبشرها أحد القادمين بأن أوراق سفرها في معيته وحوزته.
كلما راحت للسلام على أحد القادمين من السفر، تتوقع أن يأخذها منفردة ويهمس لها بالأمل الذي يرقد كجذوة نار في دواخلها.
تتمتم في سرها :
( اللع يسامحك يا شريف، كل الجايين من السفر بقو يعرفو أنا عاوزة شنو بعد السلام عليهم )
تحاول أن تتذكر كل كلماتها التي سجلتها بالشريط.
تتأسف أحياناً على كلام لم تقله، وأحياناً على كلمات لوم لم تكن ضرورية.
وظلتْ تنتظر، وعجلة حياتها رتيبة رتابة أيام القرية وسكانها.
وذات صباح لن تنساه، ومن آخر القرية، أتى خبر زلزل كيانها فرحاً ..
فقد بشرها شقيقها بأن ( إسماعيل) أتى البارحة من الخليج وقال له بأن لديها أمانة معه من زوجها.
لم تنتظر حتى تكمل بقية أعباءها المنزلية.
حشرتْ قدميها في أقرب ( حذاء ) ثم انطلقت لا تلوي على شيء.
ألقت بالتحية على القادم وهي تستحثه بعينيها لكي يعطيها الأمانة.
ورغم أنها كانت تتوقع خبراً عن سفرها إليه، إلا أن الشريط في يد إسماعيل كان كالكنز النفيس.
استلمت الشريط ولم تنتظر حتى تكمل كوب العصير المقدم لها.
أستلفت المسجل مرة أخرى من (ست سعيدة) وهرعتْ إلى غرفتها وأغلقتها من الداخل بعد أن قالت لأمها : ما تنتظروني في الغدا.
ابتسمت أمها ابتسامة ذات مغزى وهي تشيعها بنظراتها إلى باب غرفتها.
احتضنت المسجل وحشرتْ فيه الشريط، و جلست القرفصاء وسط غرفتها على سجادة مهترءة.
خالت الوقت دهراً حتى ابتدأ الشريط يلفظ حديث زوجها :
( حبيبتي ونور وعيني وشمعة ظلام غربتي .. )
إلى هنا رقص قلبها طرباً وتفتحتْ كل مسامه لتستقبل هذا البوح الذي يهدهد كيانها الملتاع.
وابتلعت ريقها مراراً ..
ثم أعادت الشريط من أوله لتستمع إلى هذه الكلمات الست. فهمستْ : أنا شمعتك يا شريف وسايبني الزمن دة كلو ؟
ثم واصل صوت زوجها :
( سلام كثير وشوق لا يوصف، بشوفك في الشغل وفي السكة وفي البيت وأنا باكل وأنا بلعب كوشتينة مع العزابة.. أما الأحلام بالليل .. خليها على الله .. لو قلت كل يوم بحلم بيكي يمكن حتعتبريني مبالغ ). ..
إلى هنا استطاعت أن تسمع دقات قلبها بوضوح تام تسابق الشريط في جريانه، ثم واصل زوجها عبر الجهاز القابع في حضنها :
( طبعاً ما حأقدر أجي السنة دي برضو .. صاحب الشغل مبسوط مني و زاد لى المرتب وحيعوضني بدل الإجازة قروش .. عشان كدة ما حآجي السنة دي .. سامحيني ).
غاص قلبها بين ضلوعها .. و لكنها واصلت الاستماع:
( قلت لصاحب العمل أنا ما حأقدر أقعد هنا بدون زوجتي أكتر من كدة . عشان كدة لو سمحت أنا حأستقدم زوجتي تعيش معاى هنا عشان الغربة تبقى طرية شوية )..
كادت سميحة أن تزغرد .. ولكنها واصلت الاستماع :
( الخبر الجميل يا حبيبتي إنو وافق .. و دلوقت إبتدينا نعمل في الإجراءات عشان تجي هنا جنبي ).
قبلتْ المسجل عدة مرات واحتضنته ليلاصق وجنتيها المحمرتين فرحاً سروراً.
ثم واصل : ( شوفي يا ناهد .. أهم حاجة التوكيل ال مع إسماعيل تسلميه لخالك سليم عشان يقوم بكل الإجراءات .. يعني العقد واستخراج جواز السفر ولما أرسل التأشيرة برضو هو حيقوم بالإجراءات في السفارة) اتسعت حدقتا (سميحة) .. بدا لها المسجل وكأنه حيوان له أنياب وأظافر يكشر عن وجه قبيح لينقض عليها.
أعادت المقطع من جديد وهي في ذهول، والاسم يتردد صداه في دواخلها كقرع الطبول :
( شوفي يا ناهد .. شوفي يا ناهد ؟ ).
تساءلت بصوت مرتفع : ناهد ؟
إن كان قد أخطأ في أسمها .. فما حكاية التوكيل والعقد والخال سليم ؟
أعادت الشريط من الأول لتتأكد من أن الصوت هو صوت شريف ..
ضربتها كلمة ( ناهد ) في قاع نافوخها بمطارق عنيفة، فتحول كل ذلك الكلام الحلو الذي في المقدمة إلى شيء كفحيح الأفاعي، فسحبتْ الشريط مرة أخرى إلى المقطع الذي أطلق عليها رصاصة الذعر ..
ظلتْ تستمع إلى المقطع حتى حفظته وهي تنظر إلى لا شيء ..
أفاقت على الطرق المتواصل على باب غرفتها وصوت أمها يقول : سميحة افتحي الباب .. إسماعيل عاوزك.
هرعتْ إلى الباب وهي تتمنى أن يكون الشريط ليس من شريف ..
قال لها إسماعيل وهو يبدي قلقاً واضحاً : معليش يا سميحة أنا أديتك شريط مش بتاعك.
قالت بلهفة يشوبها الأمل : بس دة صوت شريف.
قال إسماعيل : معليش يا سميحة أديني الشريط .. أنا مجرد موصل وبس .. وما على الرسول إلا البلاغ ..
ظلت سميحة تردد كمن أصابتها هلوسة من جراء الحمى : بس دة صوت شريف .. بس دة صوت شريف يا جماعة. صوت شريف ال بعرفو وسط مية صوت.
دخل إسماعيل وأخذ الشريط وهو يضع في حسبانه المشاكل التي تنتظره هنا من أهل ناهد الذين سيعتقدون أنه أراد أذكاء نار القتال مبكراً بين سميحة وناهد .. والتقريع الذي سيناله من شريف عند عودته فقد يظن أنه أعطى سميحة زوجته الشريط عن قصد حتى يفسد عليه موضوع زواجه من ناهد ..
سميحة .. من يومئذ .. كرهتْ هذا الاختراع المسمى ( مسجل ) .. وتنفر جافلة إن رأت شريطاً حتى وإن كان مترعاً بأغانيها المحببة.
امسح للحصول على الرابط
بواسطة : جلال داوود ابوجهينة
 1  0
التعليقات ( 1 )
الترتيب بـ
الأحدث
الأقدم
الملائم
  • #1
    عزالدين سيد وديدي 05-22-2012 01:0
    الله يهديك يا ابا جهينة والله قصة رائعة جدا وحاولت اقرأ النهاية قبل ان اصل اليها من شدة الجاذبية فلك الثناء على هذه الاستراحة الجميلة ولك مودتي بلا حدود
أكثر

للمشاركة والمتابعة

تصميم وتطوير  : قنا لخدمات الويب

Powered by Dimofinf CMS v5.0.0
Copyright© Dimensions Of Information.

جميع الحقوق محفوظة لـ "كفر و وتر" 2019