جارتنا في إحدى أركان مدينة الرياض كانت مصرية،
هي من بنات المنصورة، شديدة بياض البشرة. ولكنها رغم ذلك ( تموت ) في السّمار والناس السُّمر، طالعة نازلة تتغزل في ألواننا التي لوّحتها الشمس.
إيه اللون الكاكاوي القميل دة ؟
ثم تجضم صغيراتي وتقول : يا قميل إنت يا شوكولاطة .
كل سكان العمارة كانوا من السودانيين، عدا أسرة جارتنا المصرية هذي.
ذات يوم ( إتكندكت ) عمارتنا بدخان كثيف يحجب الرؤيا، هرعتْ المصرية إلى مصدر الدخان، ويبدو أن خشب الدخان عند إحدى جاراتنا السودانيات كان يخالطه (كراع بنبر) أو ( جُضُل شجرة نيم ). يومها عرفت المصرية أن هذا الخشب يعطي للبشرة لونا خاصا، وأصرت على تجربته.
قالت لها زوجتي : ما بلاش يا أم محمد. خليكي في لونك دة أحسن ليكِ.
فقالت المصرية بإصرار : لازم أقرّبو . ( يعني أجربو )
وأعطوها كمية من الشاف والطلح وشرحوا لها كيفية استعماله وذلك باستعمال اختراع سوداني بديل لحفرة الدخان ( عبارة عن مقعد خشبي له تجويف كتجويف مقعد الحمام الإفرنجي ).
تلك الليلة والعمارة صامتة وهادئة، سمعنا طرقاً عنيفاً بالباب، فتحنا فإذا بابنة المصرية تقف مبهورة الأنفاس وعيناها تذرفان دمعا بفعل الدخان:
قالت : إلحأ يا عمو ، ماما إتحرأت.
يعني : ( إلحق يا عمو ماما إتحرقت).
فهرولنا إلى شقتهم ، فوجدناها كزعيم الهنود الحمر تلتحف بلحاف وهي تروح جيئة وذهابا وزوجها يرغي ويزبد :مين اللي شارت عليها بالشورة المهببة دي ؟
قالوا له : يا عم هي اللي أصرت.
صار لونها كقطعة قماش ملونة كانت منقوعة في الكلوروكس.
من يومها وهي تقول : البياض ولا بلاش.
وتعرج بي الذاكرة ، لزميل الدراسة ورفيق الصبا أبو القاسم رعاه الله في حله وترحاله، عندما عاد من روسيا بشهادة الماجستير في الهندسة، ومعه زوجته الروسية (ناتاشا) والتي كانت أمه تناديها ( يا نتَّاشة ). ففي اعتقادها الجازم أن الروسية ( نَتَشَتْ) أبنها منها.
الروسية كانت من نوع فريد، فقد كانت معجبة أيما إعجاب بالشعب السوداني، وخاصة عاداتنا السودانية النسوية.
يقول أبو القاسم أنه لما تزوجها في مدينة ( كييف ) الروسية، أجتمع نفر قليل من السودانيين، وبينهم فتاة سودانية، أطلقت زغرودة من نوع ( صفارة الإسعاف) فجفلت العروس وصديقاتها الروسيات وهربن إلى خارج الشقة، وظنوا أن الهنود الحمر قد غزوا روسيا. وأفهموها بأن هذه صيحة سودانية بحتة تعبر عن فرح وبهجة عارمة.
أول يوم جربت فيه ناتاشا الزغرودة كان في باص أبو رجيلة الذي أصرت على ركوبه كنوع من التراث الشعبي السوداني. يومها كان أبو القاسم قد نسي كل قروشه في البيت وكان موقفا محرجا شاركته فيه ناتاشا ، ولكن بأريحية سودانية دفع أحدهم حق التذكرتين وهو لا يعرف أبو القاسم بتاتا، فما كان من ناتاشا إلا أن أطلقت زغرودة تردد صداها بين جنبات الباص ، فقالت أحدي الجنوبيات في مقعد البص الخلفي :
دة سنو دة ، الكواجات كمان إندهم جن كلكلي ، دة حقو ودوهو مستشفى توالي .
فنزل بها أبو القاسم قبل أن يصل وجهته.
ذات يوم، سمعت ناتشا (الثكلي) عند موت عمة أبو القاسم ، لأول مرة تســـمع كلمة (وووووب علي) ، فأعجبتها الكلمة فسألت أبو القاسم عنها فأفهمها بأن التي تقول تلك الكلمة تقولها كناية عن ألمها لفقد عزيز وأن مصابها كبير.
تلك الليلة كانت ناتاشا تقوم ببروفة طوال الليل : ووووب ألِيْ ... و هي تخبط على رأسها وتتحزم بعمة أبو القاسم.
ذلك الصباح ، أبو القاسم خرج في مشوار ، وجاءهم خبر بموت (الصديق) صاحب الدكان في ناصية بيت أبو القاســم وهو من أهل الجزيرة، وجاء المعزون من كل صوب وحدب ومن الجزيرة،
المفاجأة الكبيرة كانت ناتاشا ، فقد كانت متحزمة بي توب جيران وتردح نص النسوان :
ووووب ألى يا السديق
________________________________________