• ×
الإثنين 29 أبريل 2024 | 04-27-2024
جلال داوود ابوجهينة

نحن كدة

جلال داوود ابوجهينة

 1  0  1572
جلال داوود ابوجهينة

الغربة طاحونة ، و حباتها ( المدقوقة و المدروشة بين رحاها هم المغتربين و ضجيجها يصيب أسرهم هنا و هناك فتجعلهم يعيشون في حالة من إنعدام الوزن ).
أهلنا في الشمال ، مارسوا الإغتراب منذ عهد الملكية في مصر ، الملك فؤاد ..
و منذ أيام الملك فؤاد و الدون جوان الأرناؤوطي فاروق ، أو قيل قبل ذلك.
سألوا أحد جهابذة الإغتراب ( و هو من عندينا ) :
ما رأيك في الإغتراب ؟ فقال : العشرة سنوات الأولى صعبة.
معنى هذا أن سنوات الغربة عندنا تقاس بالحزمة ( كالسنة الضوئية )،
كل حزمة تساوي عشرة سنوات.
يعني أربعين سنة غربة تساوي أربعة حزم و كل حزمة إغترابية تكون حبلى بالبحث عن كفيل أو عمل أو تأشيرة للذهاب و العودة بها أو طلبات لا تنتهي إن لم تنتهي كل الحزم بمرض السكر أو الضغط أجاركم الله و إيانا.
تسأل واحدة عن زوجها : متى يأتي ؟ فتقول لك : بعد نص حزمة.
لأنه لو قالت بعد خمسة سنوات ، الواحد بيشوفها كتيرة ، بالضبط زى ( الجنيه بالقديم و الجديد )
نحن أحسن شعب نختزل الزمن بصبر عجيب ،
حتى أن أحد الظرفاء قال ، إن المدفون في ذلك الميدان ( ليس أبو جنزير ) بل هو سيدنا أيوب عليه السلام ، جد كل السودانيين الصابرين، فرضعنا منه هذا الصبر الجميل و لم نفطم منه إلى يومنا هذا ، و تسرب إلى جيناتنا الوراثية ، فإنساب إلى شراييننا و تحكم في فصائل دماءنا.
كل واحد فينا شايل همو ، و هم ناس تانين ، و شايل قصص في راسه ، منها المضحك و منها المبكي و منها المضحك المبكي .
زولنا حمد ، زول سوداني ، فنجري الطباع ، فارع الطول كأجداده من سلالة تهراقا ، وسامته لا تخطؤها العين ، مشلخ شلوخا غائرة كخطوط المحراث في أرض بكر.
عندما إلتحق في الرياض بعمل لأول مرة قبل كم حزمة إغترابية ، سأله بدوي : ما هذه الشرطات على خديك؟
فقال له حمد مازحا و بهمس : أنا حأقول ليك بس ما تقول لي زول. في بلدنا الواحد لو ما قتل ليهو أسد أو نمر يعتبر ما راجل و ما بيعرسوا ليهو ، أها أنا صارعت نمر و قتلته ، و لكنو عمل فيني الشرطات دي.
البدوي تراجع مصدقا و هو يفتح فمه مندهشا و متوجسا خيفة. و لكنه لم يجهد تفكيره و يسأل نفسه : ما هذا النمر الذي يختار الجضيمات فقط و يقوم بتشريطها بهذا الإتقان الهندسي ؟
أوقف القدر في طريق حمد فتاة إسمها ( ريتا ) ..
فتاة جنسيتها ( خاتفة بلدين .. كلون بشرتها خاتف اللونين ) ..
فالوالد من قلب أثينا و الأم سليلة أمهرا ( بت عماً لي مادلينا ) فكانت للناظر متعة للعين و قلبه ، و الكمال لله ، كل شيء فيها بديع و جميل ،
حبشية ... أبوها إغريقي سليل هوميروس و أمها سليلة الأمهرا ، ولدت في أثينا ، و ترعرت في أديس ، و إغتربت في السعودية.
تتابعها بعيونك و أذنك عندما تتحدث و هي تحاول تقليد لهجتنا الحبيبة ،
فكأنها تتكلم و فمها مليء بحلاوة هريسة ،
و خاصة عندما تأتي بكلمة بها حرف العين ، فيخرج الحرف و هو شبعان من ريقها ، من جوة جوة الحلق. فتتمنى لو قالت أمامك طوال اليوم ( يا علوية عيونك عسلية ).
أحب حمد ريتا ، حبا ملك عليه فؤاده و لبه و جعلت مجاري شلوخه تتوهج كلمبة النيون و تمتليء بدماء العشق التي تغلى في عروقه. و بادلته ريتا حبا بحب. و ( الساعة الـ يقولو ليها حمد ، الكلام يكْمل و يقيف.)
قلنا له و نحن نظهر الشفقة و نضمر الحسد : دي ما معروفة مسلمة ولا مسيحية ، يعني أهلك ما حيرضو ..
لم يجعلنا نكمل تعليقنا الغتيت ، فقد قال و الشرر يتطاير من عينيه : و الله لو بقت راهبة ولا من السيخ ما بخليها...
تزوجها حمد ،
مازحه أحدنا بغيظ مكتوم و حسد بائن بينونة كبرى:
أولادكم حيطلعوا مشلخين جاهزين و إنت عامل لي شلوخك الغريقة دي.
المثل يقول ( البيحبك بيبلع ليك الظلط ) ، و لكن كان حمد بيبلع ليها الدراب و ( الكُرْكُتي ) و كتل الإسمنت المرورية.
فعندما دعانا لأول مرة لوجبة غداء ، قال لنا : ريتا عملت لينا أكلة سودانية بإيديها.
و حضرنا في الموعد المضروب ،
و نحن نشحذ أسنانا لإلتهام وجبة سودانية بأيدي أجنبية.
و حمد يدخل و يمرق ( كأم العروس ) تارة يستحث ريتا و تارة يمدح في ريتا و عمايلها السودانية،
ثم أتت الصينية مغطاة بطبق سوداني ، و عروق من الجرجير تتدلى معلنة أن المائدة ستكون عامرة ،
و إنكشف الطبق عن صحن ( ماكن ) يمكن أن يسبح فيه طفل عمره ستة شهور بحرية تامة ،
و داخله شيء أشبه باللحاف المطبق أو شملة الدخان قبل أن تصير قديمة ، أطلق عليه حمد إسم القراصة ،
كان لونه داكنا يميل للون الكاكي الغامق ، فقلنا ربما من نوعية الدقيق ،
و عندما سكب حمد ( الملاح ) و الذي من المفترض أن يكون ملاح الويكة ، إندلق سائل هلامي يمكن أن تحسب من خلال شفافيته عدد حبات الفلفل الأسود و حبات الويكة الناشفة و أجزاء من الماجي التي لم تذب في الحلة.
و إندلق السائل بعد عدة محاولات من حمد و كأنه يضع لك مرهم بنسلين في العين ،
و الذي غاظني و جعل الدم يصعد إلى نافوخي هو أن حمد ما إنقطع عن شكر هذا الهلام و هذا اللحاف القابع في طشت الغسيل الذي أمامنا :
قال و هو يبلع بنهم و تلذذ : بالله ما شاطرة إنو الواحدة تتعلم تعمل الحاجات دي و بالسرعة دي ؟
فقلت له متهكما : الكلام على الأستاذ يا شيف الهيلتون.
لم يفهم مغزى تهكمي و واصل إبتلاع الكتل العجينية و نحن نتسلى بالسلطة المليئة بالشطة الحبشية.
عند خروجنا ، قالت ريتا : الأكل عجبكم ؟
قلت لها و أنا أفكر في أقرب مطعم : و دي عاوزة كلام ؟ تسلم الأيادي يا مدام ريتا.
لكزني صديقي : تسلم الأيادي و تبوظ المصارين ، مش كدة ؟
معذور حمد ، فقد كان يرى فيها كل شيء حلو.
ثم إختفى عنا حمد ، و لفترة طويلة ضاعت أخباره عنا وسط زحام الحياة و حزمنا الإغترابية تأكل لحظاتنا ، ثانية بعد ثانية.
إخواننا المصريين ، أطلقوا علينا إسم البرابرة ، إنطلاقا من مفهوم معين. فقد قام الملك فاروق بتعيين السودانيين في مصر و خاصة النوبة في سلاح الهجانة ، يركبون على الجمال و هم يجرون بالأرض سيطان عنج ، كانوا يحرسون حدود الدولة ، و إن حدث أي هرج أو مرج في القاهرة يطلبهم الملك فاروق فينزلون وسط الدارة و يلهبون ظهور أولاد بمبة بهذه السياط و التي لا يتحملونها. فأطلقوا علينا هذا الإسم تشبيها لنا بالقبائل الهمجية البربرية.
المهم إنو واحد من البرابرة ، عاش في تلك الحقبة تاجرا ميسور الحال في أم الدنيا ، و كان بعين واحدة ( المتشاءم يقول له أعور ، أما المتفاءل فيقول أنه بعين واحدة )،
ففكر أن ( يلَغْوِس ) شوية في حياته ، و يعمل تحلية و يتزوج مصرية ( تجعل حياته في الغربة طرية و لينة ). فتزوج واحدة من باب اللوق ، و عاش مبسوطا مفتول الشاربين منفرج الشفتين ، يدخل عليها كل يوم و هو يحمل أكياس الفاكهة و اللحمة البتلو ، و البسبوسة ، و دامت حاله هنية و رضية ، إلا أن دوام الحال من المحال ، فأفلس ، و صار يدخل يوميا على زوجته خالي الوفاض ، فتسأله زوجته و هي تزم شفتيها ( ها ... ما لقيتش شغلة ولا مشغلة ؟ ).
فيقول و هو كسير العين ( لا ). و إستمر الوضع لبضعة أسابيع ،
و في يوم فتحت له الباب بحيث ظهر وجهها و صدرها فقط و قالت له : ها ، مافيش جديد ؟
فقال : لا
فقالت و هي تخبط على صدرها : يا لهوي ... و كمان أعور ؟؟؟؟؟؟
و تطايرت ملابسه و حاجياته من البلكونة ، قطعة قطعة ، يلتقطها و عينه الوحيدة تذرف دمعا غزيرا.

اللهم إختزل حزم إغترابنا .. و أرجعنا إلى أهلنا في وطن يسوده السلام .
و كل حزمة إغتراب و أنتم بألف خير.
امسح للحصول على الرابط
بواسطة : جلال داوود ابوجهينة
 1  0
التعليقات ( 1 )
الترتيب بـ
الأحدث
الأقدم
الملائم
  • #1
    حسن حلفا 09-03-2011 11:0
    يا جلال يا اخوي بالله عليك كيف نجمع شتات حضارتنا التي تبعثرت بأيديدنا لا بأيدي غيرنا /هي سنة الحياة ام هي قوة الحضارات الاخري/ فصارت حياتنا حزما حزما/لك التحيه /كرويقون ااجا نل ايكا كوقو ملليدني/
أكثر

للمشاركة والمتابعة

تصميم وتطوير  : قنا لخدمات الويب

Powered by Dimofinf CMS v5.0.0
Copyright© Dimensions Of Information.

جميع الحقوق محفوظة لـ "كفر و وتر" 2019