• ×
الأحد 5 مايو 2024 | 05-04-2024
جلال داوود ابوجهينة

نحن كدة

جلال داوود ابوجهينة

 2  0  1549
جلال داوود ابوجهينة


بالرغم من أنني أناكفها كثيرا ، إلا أن الخالة أم عطية لا تستغنى عن ونستي.
فأنا أثير فيها دائما شجون قديمة، وتحب أن تعلق عليها بروحها الشابة التي توقّفت بها عند مرحلة زمنية لا تود أن تتخطاها لتصل إلى عمرها. لها عقلية عصرية ، تخلطها بتجربة سنواتها وحياتها الماضية.
ذهبت إليها، فوجدتها قد استردت عافيتها تماما و توردت خدودها وظهرت (شلوخها) جلية واضحة ( كما جدول المالية ). ودائما أجدها متسلحة في جيبها اليمين (بحقة الصعوط) وفي الآخر أصابع من الإسنكرز ، عشقها الأزلي وحولها كالعادة شابات تتوسطهن أم عطية.
بادرتني أم عطية : هوى يا جنا ، سمعتو ولا جابوه ليك ؟ مالك قاطعتني ؟
قلت لها و أنا أعانقها بحرارة : هو أنا أقدر أقاطعك ؟
طيب يا جنا أنا ما رسلت ليك عطية ؟ و كلمت ليك مرتك في التلفون ؟ دة تقل ولا شنو ؟
لا و الله يا أم عطية ، الشغل كتير ، و الناس بقوا كتار و مشتتين هنا و هناك.
وبعد أخذ و عطاء، وكعادتها ، أنهت الملامة بضحكة مشوبة بكحة و هي تخبيء سفة ماكنة في فمها و هي تقول :
الحمد لله الجيت ، تعال فكني من البنوت ديل.
فسحبتُ كرسيا وجلست بقربها.
قلت لها : خير إن شاء الله.
قالت شابة : أم عطية قولي لينا يوم شلخوكي، شنو كان شعورك ؟
قالت و هي تستعدل في جلستها :
أنا غبيانة من يومي ، أتاري يدلعوا فيني و يطبطبن لي في جضيماتي قبال أسبوع من يوم الشليخ، زى البهيمة الدايرين يسمنوها قبال الضبح. أها اليوم داك إتلمن النسوان الماكنات الفي الحلة، و كت مسكّني، بالله غير رموش عيني ما قدرت أحرّكن. مكلبات فوقي و خديجة أم نفسين واقعة جزر في جضيماتي.
قلت لها و أنا أضحك : أسمها خديجة أم نفسين ؟
قالت وهي تضحك ضحكتها المحببة : سمّوها أم نفسين عشان ما بتفتر ولا تتعب طب ، ما شاء الله كانت تسوي ألف شغلة في وكت واحد ، عشان كدي سموها أم نفسين .
قلت لها : تفتكري الفنانات الفي التلفزيون ديل ، لو شلخوهن ، شكلهن كان حيكون أحلى و لا لا ؟
قالت : في واحدة كدي تبارك الله وشها يملا العين ، الشلوخ كانت حتكون فيها زينة ساكت. وشها كان حيشيل أربعة شلخات من جنس شلخاتي في كل جضم ، و لو شلخات شوايقة كان الجضم بيشيلو أربعة ولا خمسة.
قلت لها : منو دي يا أم عطية ؟
فقالت شابة : تقصد ميادة الحناوى.
فضجت البنات بالضحك ، فقالت أخرى : طيب دق الشلوفة كان حينفع مع منو ؟
فقالت أم عطية : البنية البتغني في القهوة ديك وسط الرجال إسمها منو ؟
فقالت إبنة إبنها : تقصدي نانسي عجرم ؟
فقالت أم عطية : بس ياها ، شلاليفا يستاهلن الدق و الله.
فتصايحت البنات ضاحكات و هي تجاريهن في الضحك الصاخب.
نظرت إليها ، و قلت في نفسي : سبحان الله ، لديها مقدرة لا يستهان بها في الترويح عن نفسها و إلهاؤها عن آلامها.
قالت شابة : أم عطية قولي الجد رأيك شنو في الفنانات في التلفزيون ؟
قالت أم عطية : أنا شايفة لي بنوت بيتراقصن و يتلولون بالله الواحدة زى صباع المعجون ، محل ما تميل جسمها يتزاوغ معاها ، ما زى نسوان زمان الواحدة زى الوتد المغزوز في المراح ، يدقوهو واقف و يمرقوهو واقف.
تتعالى أصوات البنات بالضحك و هن يطلبن منها الاسترسال ، فتقول :
بري .. بري .. يا بنات ، زمان القميص كان نص كم ، حسع القميص ذاتو بقى نص قميص ، بالله لحدي الصرة و بس ، و البنطلون ما تعرفيهو ناصل ولا أصلو كدي .
ثم ، صمتت صمتا مفاجئا ، و كست وجهها بوادر حزن و قلق.
قلت لها : مالك ، زى الفي حاجة شاغلاكي ؟
قالت بصوت خفيض و نبرة حزن مفاجئة تكلل كل نبرات صوتها : يا ولدي ، قعاد الشقق دة جاب لى وجع الركب. و متل ما إنت عارف ، أنا هني لى خمسة سنين، أختي ماتت و ما حضرتها ، و أخوى مات و ما حضرتو ، و أهلنا كتار ماتو و أنا بي جاي أبكيهم بين الأربعة حيطان. و أنا بيني و بينك دايرة أموت و أندفن في تراب حلتي و وسط أهلي و ناسي ، و يشيلو عنقريبي رجال حلتي العاشو معاي و مع أبو عطية ، ما دايرة أموت هني و يختوني في تلاجة و أندفن هني في بكانا ما تعرفوه تاني يوم لو عاوزين تزورو قبري..
ثم إنفجرت باكية في نحيب إبتدأ مكتوما ، ثم إنقلب إلى نحيب متشنج ، و أنا دائما ضعيف أمام دموع النساء ، و خاصة إن كانت في ظروف أم عطية ، فهي لن تجد من يرعاها بالسودان لو عادت، لذا فهي بين سندان الغربة القسرية و مطرقة البلد الذي لا وجيع لها فيه.
بكت أم عطية بكاءا إنفطر له قلبي ، بكاءا تحس فيه نبرة الشخص الضعيف الذي لا حول له ولا قوة ، نبرة تمتزج بإحساس الشخص الذي لا أمل له في العودة قريبا ليملي عينيه بشوفة الأهل و موية النيل و ريحة الدعاش و مشية الحلة التي تعفر أصابع الأرجل بتراب البلد..........،
و لم تنفع توسلاتي و تصبيري لها بحالات مشابهة لحالتها في إسكاتها ، و هي تضع رأسها على كتفي كطفل صغير ، و بللت دمعاتي توبها الذي أشتم فيه رائحة أهلي العزاز بالبلد. و خرجت من عندها مسرعا حتى لا ترى ضعفي. فلا هي نادتني للرجوع و لا أنا إلتفت ناحيتها.
قاتل الله الغربة و قاتل الله الظروف.
لم تفارقني صورة أم عطية و هي تبكي ، صوت نحيبها و بكاءها ظل يؤرقني طوال الليل ، و كأن صوتها و هي تبكي بتلك الحرقة قد اختزلت كل الألم الذي تخبؤه كل الطيور المهاجرة في دواخلها و لكنه ألم مكبوت ينفجر في لحظة ضعف كالتي مرت بي و أنا عند أم عطية. حكيت لزوجتي الموقف ، فتذكرت أمها التي ماتت و دفناها بالرياض ، فتكومت هي الأخرى منكفئة تبكي بصوت مكتوم حتى لا تزيد أوجاعي ، و تركتني مع هذا الموقف الذي أنحفر في ذاكرتي تاركا شرخا من الصعب أن يزول.

رن جرس التلفون ، و جاءني صوت زوجة عطية :
أم عطية عاوزاك.
أيوة يا حجة.
أسمع يا ولدي ، عليك الله ما تقول لولدي عطية الكلام القلتو ليك أمبارح ، خصمتك بالنبي كان تقول ليهو ....
قلت لها : ليه يا حجة ؟
فقالت و مشروع بكاء في نبرة صوتها : ما دايرة أنكد عليه يا ولدي ، هو عارف أنا بحس بي شنو ، لكن شن يسوي يا حشاى ، لا يقدر يخليني أمشي براى ، و لا يقدر يسيب رزقو هني و يبراني للبلد. شحتفة يا ولدي. بهدلة يا ود أمي في آخر العمر ، ....الحمد لله على كل حال.
و لم تستطع أن تكمل ، فقد أحتبس صوتها بغصة أعرفها إن أرادت أن تبكي.
زادت ألمي على الألم الفائت الذي لم تندمل جراحاته بعد.
ها هو رذاذ الغربة يطال حتى من كنا نظنه أنه بمنأى عن افتراش الألم و اجترار شريط الماضي.
***
يستتبع في الجزء القادم


امسح للحصول على الرابط
بواسطة : جلال داوود ابوجهينة
 2  0
التعليقات ( 2 )
الترتيب بـ
الأحدث
الأقدم
الملائم
  • #1
    معاوية الجريف 11-28-2011 02:0
    والله يا ابوجهينة مقالك خلانى ابكى والله انا ماسك المنديل وبقش فى دموعى لانه انا متابع كل مقالاتك عن ام عطية واعيش معها بكل جوارحى واضحك كتير مع ونسته الجميلة لكن الليلة طلعت وعبرت عن حزنها الكاتماه فى نفسها من اجل ابنها عطية والله نعم الام ام عطية وربنا يطول فى عمرها ويخلينا كل امهاتنا الحنينات والله لو لفيت العالم كله ما فى ام زى الام السودانية فى حنانها وطيبتها , وانشاء الله ربنا يخلى ام عطية مصدر للفرح وما يحرمنا من حنيته وطيبته , لكن ام عطية الليلة لمست الوتر الحساس فى دواخلنا والحزن الذى نكتمه وذلك لغربتنا وبعدنا عن بلدناالعزيز السودان التى لا نعرف متى تنتهى هذا الغربة التى طالت وربنا يحسن حال بلدنا ويعيدنا اليها سالمين غانمين اخوك معاوية العوض الرياض - السعودية
  • #2
    عبدالرحمن الدول 11-28-2011 01:0
    والله يا استاذ جلال بكينا معك ومع ام عطية ونحن في الغربة نكتوي بتلك المواجع والهواجس والتي من الاسباب الرائيسية للامراض التي تصيبا السكري-- وضغط الدم وغيرها عفانا الله منها في انتظار بقية الحلقات
أكثر

للمشاركة والمتابعة

تصميم وتطوير  : قنا لخدمات الويب

Powered by Dimofinf CMS v5.0.0
Copyright© Dimensions Of Information.

جميع الحقوق محفوظة لـ "كفر و وتر" 2019