• ×
الأحد 5 مايو 2024 | 05-04-2024
جلال داوود ابوجهينة

نحن كدة

جلال داوود ابوجهينة

 2  0  1608
جلال داوود ابوجهينة
الخالة (أم عطية 2 )
سافرت الخالة ولكنها رجعت بعد بضعة أسابيع،
فرحتُ فرحا غامرا، وحزنت في نفس الوقت لعودة أم عطية بهذ السرعة من السودان، فقد استقبلتها الملاريا في الخرطوم بالأحضان ونهشت جسمها النحيل وأدخلوها المستشفى قسم العناية المركزة، حتى أن إبنها إضطر لأخذ إجازة طارئة وأتى بها إلى هنا قبل أن تمتع ناظريها بنيل قريتها وباسقات نخلها، وكانت تُمني نفسها بأن تحضر حصاد البلح وتستعيد غابر الأيام ( وشبابا كان و حزنا كان و شوقا كان. ). وكنا ننتظر حكاوي من ريحة البلد تعطر سماوات غربتنا التي تعطنت بطين الغربة الجاف.
زرتها في المستشفى بعد عودتها حيث أدخلوها، كانت كل أنحاء جسدها النحيل به آثار زيارة البعوض، ناديتها بصوت هامس، ففتحت عين واحدة وابتسمت نصف ابتسامة باهتة، ثم استسلمت لسلطان نوم التعب والإرهاق وفيح الحمى.
لم أنقطع عن زيارتها يوما، ولساني يلهج بالدعاء لها. كنت كلما أذهب لزيارتها آخذ معي كمية من شوكولاتة الإسنكرز التي تحبها ، حتى أرتفع رصيدها من الشوكولاتة إلى ما يملأ (جردلا) صغيرا.
عندما ذهبت آخر مرة لها بالمستشفى قبل خروجها منها، وجدتها تلتهم الشوكولاتة بنهم و هي تقول : بالله النصيبة دي هناك طعمها غير طعمها هني ، أتقول الشوكولاتة كمان هناك بتجيها الملاريا.
ضحك الدكتور السوري و قال لها مداعبا :
ما توكليش حلويات كتير ، بعدين يجيك سكري.
فقالت أم عطية و هي ( تمتشق ) صباعا آخر من الإسنكرز : ما تخاف علي يا سكر إنت ، لو غطسوني في برميل شوكولاتة ، ملاريتنا دي بتجيب خبر السكر الفيها . هاك يا الحكيم ، تاخد ليك شوكولاتة ؟
وهي تلملم أغراضها من المستشفي ، اهتمت فقط بأخذ الشوكولاتة في كيس ماكن.، وهي تعطي تعليمات لأبنها وزوجته بلملمة باقي الأغراض.
يقول إبنها وهو يغالب الضحك :دارت أمي على كل الأقسام بالمستشفى وهي تقول للمرضات : ما نجيكن في شيتن بطال. نفَضوا فرشاتي ديل كويس يمكن في بعوضة جات زى ناس الزوغة في نص هدومي ، تقوم تجلبغ ليكم مستشفاكم السمح دة بالملاريا ، والله جضيماتكن ال زى طماطم الشتا دة يبقى بعدين زى الباذنجان المُضبلن. دحين يا عطية البنيات بيحملن قرصة بعوضنا ؟ و الله يكبكبن الدم زى دش الحمام. نحن جلدنا ما بقى زى لفة القمر دين ، طبقات طبقات.

وتتضاحك الممرضات الفلبينيات من حديثها المتواصل غير المنقطع وهن يتحسسن خدودها المنقوشة بالشلوخ، و كأنهن يردن التأكد من أنها حقيقية.
وفي ليلة خروجها ، اجتمعنا عند إبنها في وليمة عشاء ( كرامة السلامة ) ، فجلستُ على طرف السرير وقلت لها : والله ألف حمد الله على السلامة . صراحة أنا شفقت عليك يا حاجة.
فقالت و هي تزيح السفة من جهة لأخرى بطرف لسانها : و الله أنا اشتقت ليكم في اليومين البسيطات ديل يا حشاى.
قلت لها و أنا أحاول أن ( أنكش ) كومة حديثها وأفتح صنبور حكاويها : الملاريا دي كيف حسيتي بيها بالأول ؟
قالت وهي تهز يدها اليمنى كأنها تدق على رق أو طار : بري ، بري يا ولدي ، زمان البعوض تسمع صوتو يون ويزن فوق راسك وجنبك ، حسع عليك أمان الله النوع الجديد دة كاتم صوت زى جنريتر ناس حياة جارتنا في أم بدة. بعدين أنا سمعت إنو في بخت الرضا وعلي الجهات ديك البعوض بيجي في شكل عصابة ، إتنين يرفعوا الناموسية والبعوضة التالتة هي البتعضيك. لكن حسع البعوض في الخرطوم بقى شغلو إنفرادي ، الناموسة تجي و ترفع الناموسية والبطانية بي جنحاتا ، و تمد الإبرة حقتا و يا جلد جاك بلا .
وأنفجرت ضاحكة قبل أن تصيبنا نوبة ضحك.
ثم قالت : كان ما أخاف الكضب تسمع شفيط الدم زيما بتمص ليها في عصير بالشفاطة ديك. ( و ضحكت و هي تضربني ضربة خفيفة على ظهري للدلالة على المبالغة ).
قلت لها و أنا أداري ضحكتي : معقولة دي يا حجة ؟
فقالت وهي تعتدل في جلستها : إنت ما مصدقني ، لاكين أحلف لك يا جنا ، وكت تغز إبرتها في جسمك ، زى النغزوك بي ضفر الأصبع.
قلت لها : المستشفى هناك كيف ؟ زى هنا ولا أحسن ولا أكعب ؟
قالت : أنا وكت الحمى زادت فوقي ، غبيت و ما عرفت أنا وين ، أها لما فتحت عويناتي ، أنا كنت قايلة روحي في الرياض ، مستشفى زينة ساكت و حلوة ، قلت يا ربي عطية دة جا و نقلني بالسرعة دي ؟ أها و الخلاني أشك إني فعلا في الرياض ، أشوف ليك ممرضة من أمات عيون الزى خطرات عربية ناس مصطفي جاركم دة ، عويناتا قايلات كدى لافوق أتقول مشدودات بي مشابك من نص راسا. جنس الممرضات ديل أنا ما قابلني علا هني في الرياض.
قلت لها و أنا أستحث ذاكرتها و أستفز مخزونها : في جنس حفلات فاتنك يا حاجة ، حاجة تمام.
قالت و هي تسرع لحوض الغسيل لتفرغ السفة و توابعها : أصبر.
ثم عادت و قالت : الحفلات دي الشي الوحيد الكنت متأسفة لي عدم حضورن. إن شاء الله عندكم الشرايط.
فوعدتها خيرا ، و خرجنا و نحن ندعو لها بالصحة و العافية.
قابلني إبنها في اليوم التالي ، و ما أن رأيته يضحك ، حتى عرفت أن في جعبته حكاية جديدة عن أمه ، وقبل أن أسأله قال : تصادف أن كان معها في الطائرة للخرطوم والد أحد زملاءنا بالعمل ، و هو مقيم مع أبنه بعد وفاة زوجته أم زميلنا ، كان ذاهبا لتعزية ، فأوصيته بوالدتي ، و أظنه بالغ في العناية التي لا تحبها . والدتي تتضايق من الاهتمام الزائد بها.
و تصادف أن رجع الرجل معنا على نفس الطائرة التي رجعنا بها للرياض ، فقالت أمي و هي تئن من وجع المفاصل من شدة الحمى : الراجل دة زاد على المرض. أنا مكجناهو من يومي.
فقلت لها : يا يمة الكلام دة ما بيصح ، الراجل كان ماخد بالو منك لما جيتي للخرطوم براك.
قالت و هي تئن : الراجل دة طمعان في أملاكي.
قلت لها : أملاكك شنو يا يمة. ياهن الكم فدان و كم نخلة الفي البلد؟
قالت : يا الغبيان ياهن ، ديل الأملاك ، و المتلك ما بيعرف قيمتن ، لاكين هو المتل يد الفندق دة نجيض بيعرف ليهن. يعني أمال طمعان في شنو يتكبكب فيني كدي ؟ إنت شايف أمك دي ليلى علوي ولا بت عجرم ؟ كلمو يغير محلو دة ، أنا بتلبّش وكت أشوفو.
يقول : كان الموقف محرجا ، والرجل يجلس قبالتنا ، وكلما سمع الوالدة تئن ، يسرع ويقف بالقرب منها عارضا خدماته ، فتصيح أمي و تقول : الليلة وووب ، الملاريا يا عطية. الكينين يا حشاى. الطيارة دي مالا أتقول واقفة في الإشارة.
ويهرول الرجل مرة أخرى ويضع يده على جبهتها ، فتبعده بحركة عصبية وهي تقول من تحت أسنانها : أنا راسي زى ليمونة المخلل ، الراجل دة ما يلمسني يا عطية.
يقول إبنها وهو يمسح دمعاته من الضحك : كنت في موقف لا يحسد عليه ، هل أضحك أم أغضب ، والرجل لايفهم قصد أمي ، ويصر على خدماته. ويهرول إليها بحسن نية كلما تململت. و أنا أبرر تصرفات أمي له بأنها بسبب مخلفات الحمى الشديدة.
يقول ، عندما أتت المضيفة بكوب ماء لأمي ، أمسكتها الوالدة من يدها و قالت لها : يا بتي ، درجة أولى مافيها كرسي فاضي ، ودّوني هناك وبدفع ليكم الفرق.

***

نتابع في الحلقة 3




امسح للحصول على الرابط
بواسطة : جلال داوود ابوجهينة
 2  0
التعليقات ( 2 )
الترتيب بـ
الأحدث
الأقدم
الملائم
  • #1
    محمد عبد الله 11-22-2011 02:0
    والله يا استاذ نستني عمودك دا بفارق الصبر وحكاويك الجميلة الله يديك العافية..
  • #2
    عبدالرحمن الدول 11-21-2011 04:0
    جزاك الله عنا خير الجزاء ونحن في شوق ولهفة لمتابعة حلقات امنا ام عطية اطال الله عمرها ومتعها الله بالصحة والعافية
أكثر

للمشاركة والمتابعة

تصميم وتطوير  : قنا لخدمات الويب

Powered by Dimofinf CMS v5.0.0
Copyright© Dimensions Of Information.

جميع الحقوق محفوظة لـ "كفر و وتر" 2019