أحذروا صمت الحملان:
يعود الرجل إلى بيته بعد عناء العمل، مستنجدا بساعة صمت لإراحة عقله المرهق وممنيا نفسه بإسترخاءة يكللها الهدوء، فيجد الزوجة التي عانت من الصمت في البيت تنتظره لتفرغ همها في ثرثرة لا تنتهي، وهنا تبدأ أولى شحنات الاحتكاك الذي يولد شرارة المشاكل، فلا الزوج يستطيع التركيز فيسمعها ربع تون وخماسي، ولا هي ترضى بالسكوت فترفع عقيرتها بسلم سباعي وصوت أوبرالي ( ضَعُفَ السامع و المسموع ).
عندما يفيق الزوج من إغماءته التي حدثت له من جراء العمل والزوجة ، تكون الزوجة قد حردت الكلام ولوت بوزها وانتبذت ركنا قصيا، وعندما تطير سكرة الزعلة وتأتي فكرة المصالحة يكون الزوج قد بدأ يتثاءب استعدادا للنوم لبدء يوم عمل جديد، فلا هو أستمتع بالصمت ولا هي كسرت حاجز صمتها بثرثرتها.
هذا حوار سببه طرش اصطناعي ومقصود ومتعمد.
أذكر أنه قبل قيام سوداتل العملاقة، طلب زولنا محادثة للقاهرة من الكبانية ليتحدث مع أبنه الذي يدرس هناك، وبعد طول انتظار ، جاءته المكالمة، فدار هذا الحوار:
آلو ، إزيك يا ولدي.
الحمد لله يا أبوى. إنت كيف و ناس البيت كيف ؟
كلو تمام . نحمدك يا رب. و الدراسة ماشة تمام؟
الحمد لله يابوى . أسمع يا بوى ، رسل لي شوية قروش بسرعة.
وهنا أصاب الأب طرش اصطناعي، فقال : قلت شنو ؟ تلفون الجن دة ماواضح يا ولدي.
قروش يا بوي. أنا ما عندي حتى حق الفطور.
فقال الأب : أنا ما سامعك.
وهنا تدخل موظف الكبانية شفقة بالولد المفلس في الغربة فقال للأب : يا عمنا ولدك بيقول ليك رسل ليهو قروش بسرعة.
فقال له الأب والمساخة والإمتعاض يكادان يقفزان للموظف عبر الأسلاك :
يا حشري ، أنا سامعو ، إنت الدخلك شنو ؟ وكت إنت سامعو رسل ليهو إنت.
هذا حوار مقطوع بسبب لسعة الطلب المفاجيء الذي لم يكن الأب يضعه في الحسبان.
المصريون لديهم مثل يقول : تَفْضَل تَعَلِّم في المُتْبَلِّم ، يصبح ناسي.
والمتبلم هو صنف من الناس، تشرح له الموضوع وأنت منفعل وتحاول جهدك وتستدعي كل ملكاتك اللفظية ومخزونك اللغوي والدارجي وتستعين بحركات اليدين والأصابع والكتفين والحواجب والجضوم والشلاليف، لكى يفهم هذا المتبلم، وهو ينظر إليك مبتسما ابتسامة لا مغزى لها و يقول لك : خلاص فهمت، و عندما تسأله في الصباح، يكون قد نسي تماما الموضوع من أصله مما يجعل الدماء تغلي في عروقك لأنه أتضح بأنه لم يكن يصغ إليك ، بل كان فاغرا فمه دون أن يفهمك.
حكى لي أحد الأصدقاء بأنه في إحدى القرى بالسودان ، جاء أحد المزارعين للعمدة ، وهو مفلوق والدم ينزف من جبهته ، شاكيا للعمدة من شخص لا يعترف بأدب الحوار حيث أنهى الحوار معه بضربة خطافية أسالت دمه ، فانحنى العمدة الذي لم يكن مزاجه رائقا ذاك الصباح وكأنه سيعاين الجرح النازف ، إلا أنه ناول المفلوق ضربة في نفس موقع الجرح النازف بعكازه الغليد و قال له : أمشوا خلصوا مشاكلكم بعيد عني ، داهية تاخدك إنت وهو.
العمدة أيضا يفتقر إلى أدب المحاورة.
يقولون أن السكران في ذمة الواعي ، فما بالكم لو كان الواعي دة إمرأة ، وعلى وجه التحديد زوجة السكران ، الذي يأتيها قرب انبلاج تباشير الصباح ، ونصف قميصه المكرفس خارج البنطلون ، أما لسانه فمحشور في فمه أو ملصوقا في سقف حلقة ، فيتحاوران :
تقول له : مش وعدتني الليلة نمشي خطوبة سعاد ؟
فيقول : إنت وسعاد طايرات. أنا فاضي لخطوبتها ولا طلاقا.
فتقول : لو كانت واحدة من بنات أهلك كنت إتكبكبت و جريت.
فيقول : تشتمي أهلي يا بت الذين ..... ( و تزغرد صفعة على خدها ).
وهنا أدركت الزوجة الصباح فسكتت عن الحوار المباح ، فبدأت في لملمة ثيابها استعدادا للمغادرة. فيحضنها زوجها وهو مذهول : الله يخرب بيت العزابة ، كل ما أقول ما أشرب هم البحلفوا طلاقات ويمين. أنا سويت شنو أمبارح ؟
في غربتنا، قبل أربعة سنوات ، كان لدى جار من دولة أفريقية يعمل بسفارة بلده ، كنا نسكن في فيللا أرضية مقسومة إلى شقتين ، يفصل بيننا باب في ممر يؤدي إلى باب الشقة الخارجي ، تم تغطيته الباب الفاصل بيننا بقطعة خشبية تمنع الرؤية ولكن لا تمنع انسياب أي صوت عالي. صاحبنا في منتهى الأدب والحياء ، لم يرفع رأسه يوما وهو يزورنا أو يحيينا وهو خارج لعمله ، أما في المساء ، ينقلب ( بعاتي عديل ) بعد أن يكتح المنكر ، ثم تبدأ سيمفونية من الشتائم مع زوجته بلغته التي لا أفهمها، ثم بعد قليل يبدأ الضرب والتكسير والصراخ ، فأذهب وأخبط فيفتح لي الباب ، ويكيل لي شتائم لا أفهمها ، ولكنه رغم سكرته ، يخاف من حجمي الكبير نسبيا مقارنة بحجمه، فنأخذ الولية أنا وزوجتي تحت سمعه وبصره ، وطول الليل نحاول تهدئتها وهي تتلوى من ألم الضرب. وبعد ساعة أو ساعتين تقول أنه لا بد أن يكون قد نام ، فتتسلل إلى شقتها وهكذا دواليك. الطريف في الأمر أن ابنتي الصغيرة، قالت يوما : أبوى ، غريبة الليلة جارنا ما دقّ مرتو.
يعني دق الزوجة جارتنا بقى زى المسلسل الذي صار توقيته معروفا.
شاهدت منظرا لا أنساه ، زوج سكران لدرجة كبيرة ، و زوجته تجلس القرفصاء تحتضن وليدها ، و هو يروح و يجيء شاتما إياها ، والخطير أنه يتأبط سكينا في ذراعه.
إنتي يا ولية شوم ، من يوم ما عرستك ما مشيت لي قدام.
لا رد.
إنتي يا البوم ، أنا لو كنت عرست (فاطنة) حسع كنت بقيت على بصيرة.
لا رد.
الله يلعنك ويلعن أبوك الفقُر. هو قايل نفسو شنو ؟ و الله تاني يجي يفتح خشمو إلا أفتح كرشو.
لا رد.
قلتي شنو ؟ سمعيني كدة.
هو لم يسمع شيئا ، و لكنه عملا بسياسة الذئب الذي قال للحمل المسكين لماذا تعكر علينا الماء ، يريد سببا مختلقا للهجوم بالضرب.
ولسوء حظها ، انتابت الطفل نوبة كحة شديدة ، فقالت مهمهمة : بري يا ود أمي و حشاى.
فقال الثور الهائج : أنا ود الكلب يا ............؟
فوجد سببا كسبب العلوج و الطراطير لضرب العراق ، فهجم هجوما يدويا ، أشفقت من أن يستعمل السلاح الذي بذراعه ، هجوما لم يفرق فيه بين جسد زوجته وطفله الذي صمت ربما خوفا أو ربما أسكتته ضربة غير مباشرة من جراء القصف العشوائي.
والحق يقال ، نساءنا يخافن العيب ، ويفعلن المستحيل لتحمل الرجل الشرس. فقد حكى لي أحد الأطباء المصريين ، في الصيف الماضي بأن عتريس أو سي السيد ، إعتاد يوميا أن يكون آخر شيء في برنامج زوجته ، علقة قبل أن تنام ، فهو يأتي من الخمارة بعد أن يكون قد عبأ بطنه و نافوخه بنوع رخيص من المنكر ، فتتكوم الزوجة ورمانة بجانب كوم اللحم اللي هم أبناءها و هم ينظرون بشيء من الغل و الكراهية لوالدهم.
و ذات علقة أو ذات ليلة ، لا تهم التسمية ، أتى كعادته كالثور الهائج ، و مارس حقه الطبيعي و غير الطبيعي ، و ليلتها كان عيار الضرب ثقيلا ، أدمتْ أنف الزوجة و طقطقت عظامها الهشة ، و نام الثور على ظهره و شخيره يملأ الغرفة ضجيجا منفرا. إقتربت منه الزوجة ، و بهدوء لا يشوبه ندم أو رمشة جفن ، صبت في أنفه سمنا مغليا ، و عندما هب مذعورا ، صبته الباقي على رأسه ، و عندما وقع أرضا عاجلته بضربات متتالية من نفس عكازته التي كانت تولول كل ليلة على جسدها.
فأحذروا التقليد يا من يأمنون صمت الحملان.