• ×
السبت 20 أبريل 2024 | 04-19-2024
قيلي

كتمثال علاه الغبار !

قيلي

 0  0  7519
قيلي
في مبني المكتبة المركزية أهبط الدرج المؤدي إلي قسم اللغات الأوربية ,سلم حديدي له صليل و جلبة . المكان رطب .الكتب و المجلدات لها رائحة فريدة . الطاولات متراصة و عليها كتب مبعثرة . أحدهم يغط في النوم , أخر يدندن بطرف من أغنية حزينة .دواوين شعرية لكولريدج و لورد بايرون و وليام وورد ورث , مسرحيات اوليفر قولدسميث و شكسبير و جورج برنارد شو لكن المكان رطب و خانق و الطاولات قد علاها الغبار . أصعد الدرج ثم أتوجه إلي مكتبة التيجاني الماحي .أجلس متأملا التمثال لا الكتب . تمثال بديع لرجل حاسر الرأس .

الرأس يبدو مستديرا بأكثر مما يجب كأنه نصف كرة أرضية أما الظهر فهو محني للإمام كثيرا .لماذا ركز النحات علي دائرية الرأس أكثر من أي شيء أخر ؟ ربما أراد أن يبرز قيمة العقل و العلم و موضعهما الدماغ بلا ادني شك . صوت مراوح السقف ,وشوشة صفحات الكتب بين أيدي الدارسين و المطالعين و في الخارج لا شيء سوي العصافير تغرد أعلي الشجرة . هل جلس الرجل بهذه الهيئة أمام النحات كي يقيم له هذا التمثال أم تراه النحات أبدع ما أبدع من وحي الخيال . ؟ فكرة سخيفة بلا شك و ليست موحية إطلاقا .
أنظر تقاطيع الوجه . ملامح لرجل ستيني ليست كملامح وجه غردون باشا علي كتاب التاريخ . تمثال غردون كان ذو ملامح باردة .حاول النحات أن يضفي عليها شيئا من الصرامة لكنه كان يؤدي عمله بلا محبة كأنما هو مثل بناء يريد أن ينجز بناءا ويفرغ حتي يتقاضي الثمن أما تمثال التيجاني الماحي فمن المؤكد أن ناحته قد صنعه بمحبة عظيمة . هذا واضح جدا في تعابير الألفة التي طفت علي سطح البرونز .
********
وددت لو أنني أصنع تمثالا للعم حسين ساعي الكلية في مقابل تلك التماثيل العظيمة ثم اجعله عند مدخل الحديقة التي تحيط المكان من جنباته . سأنحت تمثالا لرجل مبتسم يدخن سجائره الرديئة بشراهة .لا لا بل سأجعله يبدو مثل الإمبراطور .سأجعل التمثال من الطين أو الصلصال .هذا ليس مهما . المهم هو أن تعلو هامة التمثال . سيعجب الناس بالتمثال . تري كيف يكون شعور الرجل وقتها ؟ سيضحك ؟ سيموت من الدهشة و الضحك. سأتخذ من ابتسامته و حبيبات العرق علي جبهته و عروق وجهه البارزة نقطة الانطلاق لخيوط اللوحة أو التمثال .سأصنع الأسطورة . لماذا يهتم النحاتون بنحت الشخصيات اللامعة .السياسيون .الفنانون .الموسيقيون . الزعماء فقط
جلست متأملا العم حسين في ذاك النهار . وجهه يصلح كبروتريه عظيم فملامحه موحية و جاذبة .الأنف الكبير الضخم ,العينان الواسعتان ,الجبين الواسع .الفم يبدو دائريا و إن بدت الأسنان السفلية مثرمة من أثر السجائر .هنالك بريق قوي في عينيه .هذا مؤكد . فوق جبينه يطفو ثمة ألم ما و حزن ما . يطفران من منطقة بعيدة في أغوار نفسه ,تلك المنطقة المسماة منطقة الضغط و الكفاح ,هناك حيث يدفن الإنسان أنينه و أشجانه و حزنه و هو يبتسم .
*******
فوق رؤوس البنايات كلها شمخت شجرة كلية الآداب العتيقة . جذعها قوي و معتدل و غصونها وارفة .من جلبها و غرسها في هذا المكان ؟ الانجليز ..هذا مؤكد , فكل شيء أنجزه أولئك القوم مازال علي ما يرام ,حتي تلك الساعة الكبيرة عند مدخل المكتبة المركزية لم يصبها العطب و لا الخلل .و قد كان هنا أيضا تمثال برونزي تم نصبه للورد كتشنر أو الجنرال غردون.عموما لست أدري . لكن لم أزالوه ؟
- التمثال لكتشنر باشا .
- لا ..أبدا .
- أنا شفت التمثال ..ملامح كتشنر كانت واضحة .
- هو أنت شفت غردون ولا كتشنر وين ؟
- اسمع ..ما تغالطني
- طيب ممكن تقول ليا . من جلب شجر النيم إلي هنا كتشنر أم خلفه ونجت باشا ؟
- الشجرة الانت شايفها دي جابها سعادة ونجت باشا من الهند . حبوبتها ا لسه عايشه هناك في مدينة اسمها بوباي .
- ها ..تقصد مومباي .
أضحك ثم أرفع بصري باتجاه الشجرة .هاهي تقاوم قيظ الصيف,.تأوي العصافير و المحبين ..لا ملجأ من حرارة أغسطس إلا شجرة كتشنر العتيقة هذي.
ذاك التمثال البديع ربما أنفق صانعه شهورا و أياما و هو يعكف علي صناعته و إبداعه في دأب و همة لكنهم في دقائق معدودات أزالوه حين اعتبروه رمزا للمستعمر . من المؤكد أن الذي قضي عليه كان حاكما باطشا و ظالما لم يرد أن يري الناس تمثالا غير تمثاله و ذاتا غير ذاته . في الثانوية كنت أفتح كتاب التاريخ . ذاك كتاب له عراقة التاريخ ,غلافه اخضر ذو ألوان زاهيات لكنه صنع من ورق شديد الخشونة . تقع عيني علي صور الجنرال غردون باشا و هكس باشا و كتشنر باشا ,كلهم باشاوات و ذوو أعين زرقاء و شوارب كثيفة. لكنما صورة العم حسين كانت قد بدت لناظري في ذاك النهار و هو يلهث علي السلالم الحديدية للمكتبة المركزية مثل تمثال جميل قد علاه الغبار .!
****
دوما هناك, في الردهات القصيرة و الممرات الطويلة, ابتسامته تلمع مثل البرق. كنصف نبي يحيك الطهر و يصنع المعجزات .روحه عامرة و معبأة بالحب . يتلذذ بالشاي و السجائر .لم تكن سسجائرا من النوع الجيد علي أية حال أما الشاي فأمره أحيانا عسير في ظل شظف عيش مقيم لكن العم حسين يصر علي انجاز كيفه المعتاد بشق الأنفس . خطواته علي السلالم لا تفتر مثل ابتسامته . رائحة العنكبوت فوق الجدران العتيقة .أرفف المكتبة السوداء .الكتب تغط في سبات عميق .كم لبث في هذا المكان ؟
*******
كان حقا مثل تمثال برونزي قد علاه بعض الغبار!

*****
أتذكره في غبشة الصباح منطلقا كعافية الريح , يوزع الابتسامات علي الجميع دون استثناء . يركض النهار بطوله . حبيبات العرق علي جبينه و الأنفاس اللاهثات
حدست أن العم حسين الساعي ما يزال في أوائل الخمسينات من عمره و إن بدت تجاعيده بارزة ,ذاك أنهم لم يكونوا قد أحالوه للمعاش و قد كان يمشي منتصب القامة و لم يكن يستخدم نظارة طبية و كان يحمل الأثقال و الأحمال الكبيرة مثله مثل عمال الكلية بل كان أجلدهم و أشدهم صلابة .كانوا يوكلون له المهمات الجسام لكنه لا يتبرم . ينهض بثقل الأعباء و هو لا يفتر من المداعبات .
كان حقا مثل تمثال برونزي جميل علاه غبار الأيام و تصاريفها .!
***********
أفرغ من تناول الشاي عند الصحي ثم أخذ خطواتي صوب المبني . السلالم نصف الدائرية تشبه آلة الأكورديون . ثمة عاشقان ملتصقان أدني الدرج , يتهامسان ضاحكين ,رائحة أول الأصيل تسري في المكان .صعد العم حسين إلي جناح المكتبة الأوربية ,كان يحاول إن ينجز عمله باكرا ,ربما لان اليوم يصادف الخميس موعد العطلة الأسبوعية ,تري ماذا سيفعل في الويك اند ؟
هل سيخرج للنزهة مع أبنائه مثلا ؟ لا شيء .لا شيء . سيتحرك الآن مثل الروبوت . يعيد الكتب المبعثرة علي الطاولات إلي الأرفف بعد أن يزيل الغبار عنها . تعابير وجهه محايدة .لا تلمح فيها الغضب ولا السرور ,لا الحزن ولا البهجة و الانشراح . لاحظت أن خطوط الزمن علي جبينه قد صارت أكثر وضوحا حين أنعكس علي وجهه شعاع شمس الأصيل المتسرب من النافذة .يسعل . يحوقل . يبدو أن الضجر و الرهق قد تمكنا منه أخيرا . لماذا لا أنحت هذا الوجه ذو التضاريس البرونزية . لماذا يا ربي جعلتني أتأمل وجه العم حسين منذ باكورة هذا الصباح اللعين .لماذا ؟

انتهت
امسح للحصول على الرابط
بواسطة : قيلي
 0  0
التعليقات ( 0 )
أكثر

للمشاركة والمتابعة

تصميم وتطوير  : قنا لخدمات الويب

Powered by Dimofinf CMS v5.0.0
Copyright© Dimensions Of Information.

جميع الحقوق محفوظة لـ "كفر و وتر" 2019