• ×
الجمعة 29 مارس 2024 | 03-28-2024
قيلي

متين ح ترجع يا خال ؟

قيلي

 0  0  7849
قيلي




(إلي سودانيي الشتات جميعا .....)

دائما وعند وقت متأخر من الظهيرة يفلت منك باص الحاج يوسف الردمية فتضطر لقضاء بعض الوقت في محطة الباصات القديمة وسط المدينة, تلاحقك حالة من الهوس الجنسي واضطرابات جنون العظمة التي كانت تستلزم اللجوء لمعالج نفسي و مع ذلك تنطلق في غبشة الصباح كسهم مارق من كنانته منتشيا تمشي وسط الزحام . أفلت شمس العمر أو كادت و ما زالت الأحلام تراودك عن نفسها . تسقط شمس لتصعد أخري في ينابيع الرغبة و النيل مكتوم الصرخة , مبحوح الصوت .
لماذا هكذا دائما هي لعنة حبك يا رنانة ؟
تقوم ملسوعا من الآم و أوجاع الروح لتبحلق في فراغ الذكريات .هذه الرنانة قد أتاك طنينها ليلة البارحة و هي تتلفع ثوبها مارقة في الظلمة كأنها سيف يبرق في العتمة .تقهقه بصوت مسموع حتي ترتج أنحاء الخرطوم كلها . تقذف لعنتك بعيدا في وجه الكائنات . أنظر الآن.. هذا هو فضاء أحلامك يتداعي . أوصد الآخرون منافذ الإشراق في وجهك .لا ملجأ لك الآن إلا لظى الغربة و حميمها .قالت لك رنانة :
- هراء ..كلام فارغ .كالمستجير من الرمضاء بالنار !
دعيني يا رنانة و شأني فلهيب المنافي خير من نيران الوطن فغدا ستريني أرفل في النعيم ,أكدس الأموال بعضها فوق بعض و أغدو في الطرقات ممتطيا صهوة الحديد الياباني , أملس الجلد ,ناضر الوجه , جيوبي منتفخة بصنوف العملات ,أخضرها و أحمرها و أزرقها.

تراك الآن تحسبيني و قد جبنت عن المقارعة و النزال في هذه البلاد الشمطاء ..كلا و ألف كلا و لكن من الشجاعة أن يظل الفارس حيا أنت طبعا ما زلت تذكرين بؤس تلك الأيام و تصاريفها ,حين عز صليل الدراهم في الجيوب فأخذ الأصدقاء يقلبون ظهر المجن و يتحاشون الود و استحالت البلاد الواسعة الأرجاء إلي خرم إبرة . لسوف تدركين لاحقا أن قمم الأحلام الشاهقة قد أضحت أعلي و اعتي من قدرتنا علي الصعود لأننا قد صرنا كرخويات البحر لا تصعد إلا باتجاه الأسفل ا .
في مثل هذه الساعة كنت أجلس لأتأمل تضاريس أناملك ,ليست غضة و لا ناعمة و لا يحزنون فهي طويلة و متيبسة و لكن مع ذلك تبدو جميلة ,كأن الدم قد توقف عند ساعديك لتهبط الأنيميا الحادة إلي معصميك و أناملك الرقيقة . من أم بدة كرور إلي الصالحة مرورا بالفتيحاب كانت الأحلام تذروها رياح امدرمان الصيفية القاسية بينما أنت تقهقهين في الشيء و اللاشيء.
- يا رنانة قلبك ميت .
-شوف البلد دي عشان تعيش فيها لازم تتخيل انو كل ما يحدث امامك هو نوع من الكوميديا السوداء .

أذكر كيف ألقي بنا صاحب النزل الطيني الحقير الذي كنا نقطنه بالإيجار كبقية المتاعيس إلي الشارع حين قفز بالأجرة و كأنه يمارس القفز بالزانة صائحا في وجوهنا :
- كلامي واضح عجبك أدفع ما عجبك أتخارج من بيتي .

جاء الجيران وكالعادة اصطفوا للفرجة ثم انصرفوا لكن بعضهم كان قد تبرع بإسداء بعض النصائح و الإرشادات . نهار أمدرمان ساعتئذ كان يغلي كالمرجل فقد ظلت الشمس الملعونة ترابط فوق رؤوس الخلائق و كأنها تمارس بروفاتها الختامية ليوم الحشر الموعود .
أنت عظيمة و قدرتك علي الاحتمال أقوي بلا شك أما أنا فمجرد خنفساء تمارس رذيلة الحشرات و مع ذلك فلا يبدو أن هنالك داع لجلد الذات مطلقا .
كانت المحطة القديمة مستلقية تحت أقدام الحشود البشرية و كأنها عاهرة قد أسلمت جسدها في فتور لوحش كاسر .العربات المنهكة تئن ,الباعة المتجولون ينادون علي بضائعهم ..أصحاب المركبات ينادون علي مركباتهم ,الشحاذون يصرخون ,بائعي الصحف اليومية يزعقون ,ماسحي الأحذية يتوسلون أقدام السابلة ,الكل يبيع فمن يشتري . يلاحقك رنين (رنانة )
- يا خالي أرجع ..
- قرار نهائي .

البيوت المصطفة علي جانبي الطريق كأنها كانت تتوسل إليك أن تبقي ,مآذن المساجد ,أشجار النيم ,حدقات الأطفال ,شجرة النيم الكبيرة القائمة في فناء الدار. خرجت لا تلوي علي شيء متأبطا الحقيبة السوداء (هاندباك) , تلك التي أشترتها أمك المرحومة من نواحي السوق الشعبي حين كانت تزمع السفر إلي القضارف لتتلقي عزاء أخيها عسكري البوليس الذي لقي حتفه علي يد عصابات الشفتة الأثيوبية.

عند مثل هذه الساعة من المساء ,أجوس خلال ذاتي ,المدينة باردة ,شوارعها مغسولة بماء المطر لكنما السماء لونها رمادي و هنالك بضع سحابات في الأفق. ستمطر أم أنها ستغرق في فوضي الطقس مرة أخري؟ .أندس وسط البشر الغرباء هنا ,وجهي البرونزي هو نفسه لكنه صار ناعما أكثر . أطفال الجيران مشاغبون ,يقذفون ظهر الغريب بكرات العنصرية الباردة :

-يا سوداني يا ..........

في تلك الليلة كنت أبحث عن وجهك في خيالي .محض خيال طفولي .تتزاحم الرؤي و تتداخل .بيتنا في ناصية الشارع و الشارع في ناصية الحزن يغرق .. أتذكرين ؟

كنت دائما تكتبين علي دفتر المدرسة : (الوطن هو طاقة الحب ..رغبتنا في استمرار الحياة ..)

دق الصوت مسمعك كمسمار يغوص في كبد الحائط .حانت منك التفاتة إلي الوراء فلمحت (رنانة ) متلفعة ثوبها تلهث خلفك و تستحلفك أن تعود ,أنت الآن لا تدري من أين كانت طالعة ,من أديم الأرض أم من جوف السماء,كل ما تتذكره الآن أن سراب الغربة كان يلمع ممتدا في بيداء أحلامك و لكنك مضيت في الدرب زمانا ليس باليسير و كان صوت( رنانة) الرنان ما يزال مرتفعا :
- متين ح ترجع يا خال؟
امسح للحصول على الرابط
بواسطة : قيلي
 0  0
التعليقات ( 0 )
أكثر

للمشاركة والمتابعة

تصميم وتطوير  : قنا لخدمات الويب

Powered by Dimofinf CMS v5.0.0
Copyright© Dimensions Of Information.

جميع الحقوق محفوظة لـ "كفر و وتر" 2019