حصاد الألسن عبد الله مسعود
قصة أغنية
منذ أن عاد شاعر الشباب أحمد رامي من بعثته الدراسية بفرنسا إلي القاهرة في عام 1924م كان تواقا لرؤية صاحبة ذلك الصوت الشجي التي غنت بعضا من أغنياته في غيابه. كانت أم كلثوم قد قدمت إلي القاهرة عام 1922م وفي خلال عامين فقط فرضت سيطرتها علي عالم الطرب. سعي رامي لشفاعة وجهاء المجتمع لمقابلة أم كلثوم وتم له ما أراد، فكان اللقاء وكان الحب من أول وهلة وظل رامي أسيرا لذلك الحب إلي أن إنتقل إلي الدار الآخرة في عام 1982م أي بعد رحيلها بسبع سنوات.
لم يحل عزوفها عن الزواج منه أو زواجه من عطيات خطاب دون تدفق ذلك الحب من سويداء الفؤاد ليصبغ كافة خلايا جسمه وليلهمه نظم درر في محبوبته تحكي لوعته ووجده وشجونه. كل ذلك لم يشفع له لينال شرف الإقتران بمن أحب. كانت أم كلثوم تبادله حبا بحب إلا أن حبها لفنها طغي علي عاطفتها الإنسانية فآثرت أن تستثمر حب رامي لها في تفجير منابع الإبداع الشعري المنبثق من عاطفة جياشة ركيزتها الصدق والإخلاص والتفاني. غنت من نظم رامي وألحان السنباطي مئات الأغاني العاطفية كدليلي احتار يا ظالمني سهران لوحدي اللي كان يشجيك أنيني غلبت اصالح في روحي وهجرتك علي سبيل المثال لا الحصر.
بعد إقتران رامي بعطيات، التي تمت إليه بصلة القرابة، وبعد أن أولدها صبيين هما محمد وتوحيد، خمدت جذوة الحب في قلب رامي جراء ما لقيه من معاملة إنسانية من زوجته التي كانت علي علم بمدي ما يكنه رامي لأم كلثوم من حب. كانت عطيات مثالا للزوجة المتفهمة، العطوفة، الحنونة، المحبة وارتبطت برامي علي الرغم من أنها كانت تدرك أن رامي لم يحب في حياته سوي أم كلثوم. لم تعرف الغيرة إلي قلب عطيات سبيلا، وليس أدل علي ذلك من أن صورة أم كلثوم ظلت معلقة في حجرة نوم رامي لمدة خمسين ستة دون أن تثير في نفسها أي إحساس بالغيرة. كانت عطيات قمة في الرقي والتحضر والنبل، وكانت تؤمن إيمانا راسخا بأن مقلب القلوب هو الذي صرف قلب رامي نحو أم كلثوم ولا راد لحكمه. لذا تعايشت مع ذلك الواقع الذي أكسبها إحترام زوجها، واستطاعت لحين أن تصرفه عن أم كلثوم وإن لم تستطع كبح جماح ذلك الحب الجارف والذي ما إن يخبو(أو هكذا كان يخيل إليها) حتي توقده وتسعره آهة من آهات المحبوبة في أغنية صاغها الحبيب المحروم.
إنقطع رامي عن التأليف العاطفي لفترة فحسب الناس أن رامي قد سلا أم كلثوم إلا أن الطبع يغلب علي التطبع. ففي عام 1954م بعد أن أوشكت عطيات في إيهام نفسها بهجران رامي لأم كلثوم إذ به يأتي بكلمات تكشف عن مبلغ معاناته ووجده وحرمانه. صاغ كل تلك الأحاسيس شعرا لحنه السنباطي كأروع ما يكون التلحين وغنته أم كلثوم كأجمل ما يكون الغناء. كان موسم عام 1954م (الموسم الغنائي لأم كلثوم) هو الإيذان بميلاد أغنية "جددت حبك ليه" ثم (عادت حليمة لعادتها القديمة) وتوالت الأغاني العاطفية التي سكب فيها رامي عصارة لواعجه: فاكر لما كنت جنبي عودت عيني علي رؤياك حيرت قلبي معاك يا مسهرني. والأخيرة من ألحان سيد مكاوي ونظمها رامي عام 1972م معاتبا فيها أم كلثوم لعدم زيارتها له بعد طول غياب، مستهلا تلك الأغنية بالمطلع الذي يقول: ماخطرتش علي بالك يوم تسأل عني وعنيا مجافيها النوم يا مسهرني.
من المفارقات أن زوجة رامي عطيات كانت شديدة الإعجاب بأغاني أم كلثوم العاطفية التي صاغها شعرا زوجها أحمد رامي، إلا أن أمها كانت تغار من أم كلثوم وكثيرا ما حاولت أن توغر صدر إبنتها ضد أم كلثوم ولكن دون فائدة. وعندما غنت أم كلثوم أغنية "جددت حبك ليه" وسمعتها أم عطيات غضبت غضبا شديدا، إذا أنها، كسائر الناس، كانت تظن أن رامي قد تخلي عن التعبير عن حبه لأم كلثوم بشعر تقوم هي بغنائه، فأسرعت لدار إبنتها ثائرة وقالت لها: أيه اللي بهببو سي أحمد ده !؟ لم تدر عطيات ما رمت إليه أمها وظنت أن أمرا خطيرا قد أتي به زوجها فهي لم تكن قد استمعت إلي الأغنية حتي تلك اللحظة. لما استفسرت أمها أخبرتها بمطلع الأغنية الذي يقول:
جددت حبك ليه بعد الفؤاد ما ارتاح
حرام عليك خليه غافل عن اللي راح
ده الهجر وانت قريب مني
كان في أمل لوصالك يوم
لكن بعادك ده عني خلي الفؤاد منك محروم
يا هل تري قلبك مشتاق يحس لوعة قلبي عليك
ويشعلل النار والأشواق اللي طفيتها انت بايديك
انت ظالمني وانا راضي
أستمعت عطيات للكلمات وقالت لأمها: لولا تلك العاطفة النبيلة لما استمتعنا بمثل تلك الأغاني. فردت عليها أمها: يا شيخة روحي بلا خيبة وغادرت دار إبنتها علي عجل وهي من الغضب في نهاية.
حاشية: معظم ماجاء في هذا المقال شاهدته وسمعته في سهرة بقناة دريم تو عام 2009م، إستضافت فيها القناة الفضائية السيدة عطيات وإبنيها الوحيدين الدكتور محمد رامي والمهندس توحيد رامي. كانت سهرة في منتهي المتعة والإمتاع وما زانها وزاد في بهجتها خفة دم عطيات حينما كانت تحكي عن غيرة أمها من أم كلثوم..يااااه، ما أحيلاه زمن.
عبد الله مسعود
الرياض - المملكة العربية السعودية
1 شوال 1434هـ الموافق 8 أغسطس 2013م
قصة أغنية
منذ أن عاد شاعر الشباب أحمد رامي من بعثته الدراسية بفرنسا إلي القاهرة في عام 1924م كان تواقا لرؤية صاحبة ذلك الصوت الشجي التي غنت بعضا من أغنياته في غيابه. كانت أم كلثوم قد قدمت إلي القاهرة عام 1922م وفي خلال عامين فقط فرضت سيطرتها علي عالم الطرب. سعي رامي لشفاعة وجهاء المجتمع لمقابلة أم كلثوم وتم له ما أراد، فكان اللقاء وكان الحب من أول وهلة وظل رامي أسيرا لذلك الحب إلي أن إنتقل إلي الدار الآخرة في عام 1982م أي بعد رحيلها بسبع سنوات.
لم يحل عزوفها عن الزواج منه أو زواجه من عطيات خطاب دون تدفق ذلك الحب من سويداء الفؤاد ليصبغ كافة خلايا جسمه وليلهمه نظم درر في محبوبته تحكي لوعته ووجده وشجونه. كل ذلك لم يشفع له لينال شرف الإقتران بمن أحب. كانت أم كلثوم تبادله حبا بحب إلا أن حبها لفنها طغي علي عاطفتها الإنسانية فآثرت أن تستثمر حب رامي لها في تفجير منابع الإبداع الشعري المنبثق من عاطفة جياشة ركيزتها الصدق والإخلاص والتفاني. غنت من نظم رامي وألحان السنباطي مئات الأغاني العاطفية كدليلي احتار يا ظالمني سهران لوحدي اللي كان يشجيك أنيني غلبت اصالح في روحي وهجرتك علي سبيل المثال لا الحصر.
بعد إقتران رامي بعطيات، التي تمت إليه بصلة القرابة، وبعد أن أولدها صبيين هما محمد وتوحيد، خمدت جذوة الحب في قلب رامي جراء ما لقيه من معاملة إنسانية من زوجته التي كانت علي علم بمدي ما يكنه رامي لأم كلثوم من حب. كانت عطيات مثالا للزوجة المتفهمة، العطوفة، الحنونة، المحبة وارتبطت برامي علي الرغم من أنها كانت تدرك أن رامي لم يحب في حياته سوي أم كلثوم. لم تعرف الغيرة إلي قلب عطيات سبيلا، وليس أدل علي ذلك من أن صورة أم كلثوم ظلت معلقة في حجرة نوم رامي لمدة خمسين ستة دون أن تثير في نفسها أي إحساس بالغيرة. كانت عطيات قمة في الرقي والتحضر والنبل، وكانت تؤمن إيمانا راسخا بأن مقلب القلوب هو الذي صرف قلب رامي نحو أم كلثوم ولا راد لحكمه. لذا تعايشت مع ذلك الواقع الذي أكسبها إحترام زوجها، واستطاعت لحين أن تصرفه عن أم كلثوم وإن لم تستطع كبح جماح ذلك الحب الجارف والذي ما إن يخبو(أو هكذا كان يخيل إليها) حتي توقده وتسعره آهة من آهات المحبوبة في أغنية صاغها الحبيب المحروم.
إنقطع رامي عن التأليف العاطفي لفترة فحسب الناس أن رامي قد سلا أم كلثوم إلا أن الطبع يغلب علي التطبع. ففي عام 1954م بعد أن أوشكت عطيات في إيهام نفسها بهجران رامي لأم كلثوم إذ به يأتي بكلمات تكشف عن مبلغ معاناته ووجده وحرمانه. صاغ كل تلك الأحاسيس شعرا لحنه السنباطي كأروع ما يكون التلحين وغنته أم كلثوم كأجمل ما يكون الغناء. كان موسم عام 1954م (الموسم الغنائي لأم كلثوم) هو الإيذان بميلاد أغنية "جددت حبك ليه" ثم (عادت حليمة لعادتها القديمة) وتوالت الأغاني العاطفية التي سكب فيها رامي عصارة لواعجه: فاكر لما كنت جنبي عودت عيني علي رؤياك حيرت قلبي معاك يا مسهرني. والأخيرة من ألحان سيد مكاوي ونظمها رامي عام 1972م معاتبا فيها أم كلثوم لعدم زيارتها له بعد طول غياب، مستهلا تلك الأغنية بالمطلع الذي يقول: ماخطرتش علي بالك يوم تسأل عني وعنيا مجافيها النوم يا مسهرني.
من المفارقات أن زوجة رامي عطيات كانت شديدة الإعجاب بأغاني أم كلثوم العاطفية التي صاغها شعرا زوجها أحمد رامي، إلا أن أمها كانت تغار من أم كلثوم وكثيرا ما حاولت أن توغر صدر إبنتها ضد أم كلثوم ولكن دون فائدة. وعندما غنت أم كلثوم أغنية "جددت حبك ليه" وسمعتها أم عطيات غضبت غضبا شديدا، إذا أنها، كسائر الناس، كانت تظن أن رامي قد تخلي عن التعبير عن حبه لأم كلثوم بشعر تقوم هي بغنائه، فأسرعت لدار إبنتها ثائرة وقالت لها: أيه اللي بهببو سي أحمد ده !؟ لم تدر عطيات ما رمت إليه أمها وظنت أن أمرا خطيرا قد أتي به زوجها فهي لم تكن قد استمعت إلي الأغنية حتي تلك اللحظة. لما استفسرت أمها أخبرتها بمطلع الأغنية الذي يقول:
جددت حبك ليه بعد الفؤاد ما ارتاح
حرام عليك خليه غافل عن اللي راح
ده الهجر وانت قريب مني
كان في أمل لوصالك يوم
لكن بعادك ده عني خلي الفؤاد منك محروم
يا هل تري قلبك مشتاق يحس لوعة قلبي عليك
ويشعلل النار والأشواق اللي طفيتها انت بايديك
انت ظالمني وانا راضي
أستمعت عطيات للكلمات وقالت لأمها: لولا تلك العاطفة النبيلة لما استمتعنا بمثل تلك الأغاني. فردت عليها أمها: يا شيخة روحي بلا خيبة وغادرت دار إبنتها علي عجل وهي من الغضب في نهاية.
حاشية: معظم ماجاء في هذا المقال شاهدته وسمعته في سهرة بقناة دريم تو عام 2009م، إستضافت فيها القناة الفضائية السيدة عطيات وإبنيها الوحيدين الدكتور محمد رامي والمهندس توحيد رامي. كانت سهرة في منتهي المتعة والإمتاع وما زانها وزاد في بهجتها خفة دم عطيات حينما كانت تحكي عن غيرة أمها من أم كلثوم..يااااه، ما أحيلاه زمن.
عبد الله مسعود
الرياض - المملكة العربية السعودية
1 شوال 1434هـ الموافق 8 أغسطس 2013م
