• ×
الخميس 25 أبريل 2024 | 04-24-2024
عبدالله مسعود

حصاد الألسن

عبدالله مسعود

 0  0  1208
عبدالله مسعود
حصاد الألسن عبدالله مسعود
موسيقي سيد درويش (2-2)
سأحاول أن أستعرض هنا أمثلة عن التحولات التى أحدثها سيد درويش فى الموسيقى تحت مسمي خصائص فن سيد درويش. إن الموضوعات التى طرقها سيد درويش لم تكن لتخطر على بال أحد فى ذلك الوقت ، ففى عصر اقتصرت فيه وظيفة الفن على التسلية ، والموضوع الفنى على العشق والغرام يقتفى سيد درويش شعور الإنسان فى مجال آلامه وأحلامه ويخاطب الجماعة كما يخاطب الفرد ، واستطاع بعد مئات من السنين أن ينتقل بالفن من حيز التطريب الضيق إلى آفاق التعبير الرحبة ويخطو خطوات كبيرة نحو عالم الإنسانية الواسع ، ويجعل من هذه الرسالة هدفا لحياته.
ففي لحن الصنايعية على سبيل المثال ومطلعه " الحلوة دى قامت تعجن فى البدرية .. والديك بيدن كوكو كوكو فى الفجرية .." يبدأ بصورة شعبية بسيطة هى مدخل إلى قضية كبرى، هي قضية العمال والصنايعية والصناعة ورأس المال؛ موضوع غير قابل للغناء أصلا، وينتقل من غناء فئة من العمال إلى، وهذا هو الأهم، ربط هذه الصورة بحال البلد كلها ..كان باستطاعة سيد درويش أن يستمر كما فعل أسلافه من الفنانين فى طرق نفس الموضوعات والبعد عن الصور البائسة والمؤلمة لشعب بأكمله وليس لمجرد فرد لسعه الغرام، إنه يتعرض لقضية سياسية فى المقام الأول، ولم تكن هذه مهمة الفن فى عصره، كان الفن للمتعة فقط، ثم هو يجعل من هذه الطقطوقة البسيطة والمليئة بالشجن فى نفس الوقت قطعة فنية خالدة تحفظها الأجيال.
ولكن ربما سأل سائل: من هى الحلوة التى يريد سيد درويش أن يتغنى بها؟ إنها امرأة بسيطة.. تعد خبز الصباح لأسرتها في وسط شعبى بين عامة الناس الذين يربون الدواجن فى منازلهم المتواضعة، يظهر سيطها الإنسانى فى الجملة التالية على لسان مجموعة من الصنايعية تخرج فى الصباح الباكر فى رحلة كل يوم للبحث عن الرزق تقول " ياللا بنا على باب الله .. باصنايعية .. يجعل صباحك صباح الخير يا اسطى عطية"
ما هو الجميل فى المرأة الكادحة التى تخبز خبز الصباح؟ ، إن هدف سيد درويش ليس الغزل هنا ، إن نصب عينيه أمرا أهم؛ هو الشعب الذى لم يكن يمثل على أى صعيد اجتماعى فى الطبقات العليا التى تستمتع بالفنون، حتى نساؤه لم تحظ بالغزل إلا فى التراث الشعبى الممزوج بطمى النيل.. ثم إن الفن الراقى كان حكرا على صالونات الأتراك والمتوركين من أتباع الدولة العثمانية، ولم يكن لبسطاء مصر غير الطمر التام فى طينها وترابها. إنه يتحدث عن بؤس فئة من الناس تشكو همومها إلى رب العالمين، لكن فئات أخرى عديدة من الشعب كانت تشعر بنفس الشعور، وتعانى من نفس الإحباط، فسرت أغنيته فى نفوسهم وكأنها تتحدث بلسانهم.
"طلع النهار فتاح يا عليم .. والجيب مافيهوش ولا مليم
مين فى اليومين دول شاف تلطيم .. زى الصنايعية المظاليم"
ثم يتصاعد كلاما ولحنا إلى صيحة الصنايعية:
"الصبر أمره طال .. وايش بعد وقف الحال"

ثم يطلق دعوة إيمانية خالصة:
"ياللى معاك المال .. برضه الفقير له رب كريم"
وينتقل إلى النظر حوله ، للأمم التى تقدمت ، ويبحث فى سر تقدمها:
"أولاد أوربا ما بيناموش .. عن الصنايع مايونوش"

ويتساءل لماذا نحن مهمومون بينما لدينا كل المواهب:
"سبع صنايع فى ايدينا .. والهم جاير علينا"
ثم يوجه اللوم ماشرة إلى أغنياء القوم:
"ياما شكينا وبكينا .. يا أغنيا ليه ما تساعدوش"

وليس ما تغنى به سيد درويش من نظمه، وإن كان له فى ذلك الكثير، ولكن اختياره للموضوع، وهو ملحن، قد أدخل الفن إلى عالم جديد. وهذه هى المفاجأة .. إنه موضوع جديد، وجاد، وجرئ، ويحمل معه آفاقا جديدة من التعبير عن أحوال بسطاء الناس، الصنايعية هنا على سبيل المثال ، الذين لم يكونوا من قبل فى أجندة الفن، ولا فى أى أجندة .. وتجاهل تام لموسيقى الصالون الحاكم. كانت مفاجأة سارة للشعب المصرى ، لكنها لم تكن كذلك لا للقصر الملكى ولا للاحتلال الأجنبى.

مثال آخر .. يجد الشيخ سيد كلاما منشورا فى إحدى الصحف لبديع خيرى، " قوم يامصرى مصر أمك بتناديك .. خد بناصرى نصرى دين واجب عليك" ، يعجبه الكلام فيأخذ فى تلحينه ونشره كنشيد سهل الغناء يثير حماس الناس ووطنيتهم والأمثلة غير ذلك كثيرة.
كانت مدرسة سيد درويش الغنائية هي المدرسة التعبيرية في التأليف الموسيقي والبناء الفني.

لقد إنتهج سيد درويش منهجا جديدا فى التلحين إعتمد فيه أساليب متطورة كما اهتم بتأصيل النغمات المحلية ووضع نصب عينيه مسألة هامة وهى أن تعبر الموسيقى عن الموضوع والمحتوى الكلامى بحيث تنطق بأفضل شعور يمكن أن يتولد عند سماع الجمل والكلمات، وقد تحرر من أجل ذلك من كل قيود الماضى التى كبلت الحركة الموسيقية فى قوالب جامدة وأوجد بذلك لأول مرة المدرسة التعبيرية فى الموسيقى. ولم يكن الطريق سهلا، فالجديد دائما محل ريبة وشك وعدم ارتياح، وقد قوبل سيد درويش فى أكثر من مناسبة بالرفض والاستنكار وفشل فى إقناع جمهور الحفلات بفنه فى مراحله الأولى، لكنه فطن إلى أن صوته لم يكن لينافس أصحاب الحناجر الذهبية فى ذلك الوقت فامتنع عن تقديم أعماله بنفسه، وشجعه أحد أصحاب تلك الحناجر وهو الشيخ سلامة حجازى، سلطان الطرب وقتها، على المضى قدما فى التلحين دون الغناء، وعرض عليه تلحين أول أوبريت له لفرقة جورج أبيض التمثيلية وهو فيروز شاه، إقتناعا بموهبته وقدراته. وحتى يعرض إمكانياته الفنية قام سيد درويش بتلحين الدور، وهو أصعب القوالب الغنائية السائدة، ولحن عشرة أدوار كل منها من مقام موسيقى مختلف، فكانت أفضل عشرة أدوار فى تاريخ الموسيقى العربية ، وهو بذلك قد أثبت تفوق موهبته على جميع ملحنى عصره فى مجالهم وميدانهم، وسطع نجمه عاليا كأفضل من لحن الدور، وبانتهائه من هذه المهمة خلا له الطريق ليقدم ما يشاء دون أدنى انتقاد ، ثم تنافست الفرق المسرحية على إنتاجه بعد أن تبين لها جماهيرية ألحانه وتأثير وقعها البالغ على النفوس. وعنـد مقـارنة ألحان سيد درويش بما قبلها نجد عناصر قد اختفت وحلت مكانها عناصر جديدة أصبحت هى السمات الأساسية للألحان من بعده، وهو بذلك قد وضع أساليب جديدة فى التلحين.

كان الغناء قبل سيد درويش نمطي لأبعد الحدود. يبدأ المطرب فى الغناء بعد سلسلة من التمهيدات الموسيقية تبدأ عادة بأحد القوالب الموسيقية التركية وهو "السماعى"، والسماعى يتكون عادة من 4 فقرات أو حركات تسمى كل منها خانة، ويتكرر بينها جملة موسيقية هى " التسليم" وينتهى بها أيضا. ولكل سماعى نغمة أساسية أو مقام موسيقى أساسى وتتنوع الحركات الأربع بين مقامات قريبة ثم تعود إليه فى التسليم. وبانتهاء تقديم السماعى الذى يستغرق حوالى 10 دقائق يقوم كل عازف بأداء بعض "التقاسيم" المنفردة على آلته بالتناوب مع بقية العازفين ومن نفس المقام الموسيقى والنغمات التى مهد لها السماعى لمدة 10 دقائق أخرى، ثم يبدأ المطرب فى التمهيد لنفسه يأداء "موال" من 10 دقائق ثالثة يتصاعد فى حرارته ثم ينتهى "بقفلة" حارة يشد يها انتباه الجمهور وإعجابه وعندها يدخل فى الدور أو القصيدة فى 30 45 دقيقة، وبهذا يكون قد أتم وصلة غنائية. وكلمة وصلة أتت من إيصال أو ربط عدة فقرات ببعضها ترتكز على نفس المقـام وإن تنوعت فى الداخل ، أى أن الوصلة تستغرق بين 60 و 90 دقيقة.
تخلص سيد درويش من كثير من الطقوس الموسيقية التى صحبت الغناء فى عصره، وانتقل إلى أسلوب الدخول مباشرة فى الموضوع ، وإذا ضربنا مثالا بالسفر إلى هدف معين يمكن الوصول إليه بعدة طرق فقد اختار سيد درويش أقصر وأسرع وأسهل الطرق للوصول إلى قلب المستمع وذهنه ، ولا شك أن ذلك يتطلب براعة خاصة لم تتوفر لغيره وقد كمنت موهبة سيد درويش الأساسية فى هذه القدرة التى مكنته من الوصول للناس بتلقائية واضحة. إن سيد درويش ظاهرة فنية لن تتكرر وحسبه أن أي لحن في الموسيقي العربية من بعد سيد فيه شئ من سيد إذ لم يأت أحد بجديد في مجال الموسيقي العربية من بعد سيد.
عبدالله مسعود
الرياض المملكة العربية السعودية
16/6/1434هـ الموافق 26/4/2013م
(من بحث أعده د. أسامة عفيفي)


امسح للحصول على الرابط
بواسطة : عبدالله مسعود
 0  0
التعليقات ( 0 )
أكثر

للمشاركة والمتابعة

تصميم وتطوير  : قنا لخدمات الويب

Powered by Dimofinf CMS v5.0.0
Copyright© Dimensions Of Information.

جميع الحقوق محفوظة لـ "كفر و وتر" 2019