• ×
السبت 20 أبريل 2024 | 04-18-2024

(يا ضابط السجن)! قصة إبداع مسكون بالشجن!

المقدم (م) يحيى ساتي المهدي يروي تفاصيل (صبرك مرة واحدة)!

المقدم (م) يحيى ساتي المهدي يروي تفاصيل (صبرك مرة واحدة)!
إعداد: علي الصادق البصير 



كثيرة هي الأعمال الناجحة التي وُلدت بطعم المعاناة والظلم وكان كل ما أُحيط بها من تفاصيل سبباً لروعتها وجمالها وصِيْتها الخالد والمتوارَث؛ ولعلَّ من تلك الروائع ما خطَّه يراع الشاعر الكردفاني والإذاعي الفذّ والمجاهد (محمد حامد آدم) عندما اعتقلته أجهزة الرئيس الأسبق جعفر نميري وزجَّت به في معتقل سجن الأبيض الذي شهد ميلاد واحدة من أجمل أعماله وهي أغنية (يا ضابط السجن) التي يتغنَّى بها الفنان عبد الرحمن عبد الله.
مع ضابط السجن
الجديد في هذه المادة أن نسمع قصتها من ضابط السجن الذي خاطبه الشاعر وقتها وهو المقدم (م) يحيى ساتي المهدي، متَّعه الله بالعافية وهو من أبناء القطينة سجلنا له زيارة بداره العامرة بمنطقة المايقوما بشرق النيل فاستقبلنا هاشًا وباشًا ووجدناه مشغولاً بأعمال الصيانة والجير استعداداً للمناسبة السعيدة بزواج نجلته الملازم شرطة (رضاب) التي قال إنها آخر العنقود.
جلسنا للسيد المقدم ليخبرنا عن قصة التحاقه بالشرطة والسجون وليحكي لنا قصة ضابط السجن، فقال: التحقت بكلية ضباط السجون في العام (1969م) وتخرجت برتبة الملازم سنة (1971م) وتم نقلي للأبيض وهي أول محطة لي في العمل، بعد ذلك نُقلت للدامر (1974م ــ 1975م) ونُقلت للدويم ثم الخرطوم ودارفور ونيالا حتى (1984م) ثم سوبا والقضارف ثم الخرطوم وفي العام (1989م) تمت إحالتنا للمعاش.
خمسة شهور طويلة
يروي المهدي قصة سجن الأبيض ويقول: كنت خريجًا جديدًا آنذاك ووسط رتب كبيرة بالسجن، وكنا ثلاثة ضباط أحدنا مسؤول عن العساكر وآخر عن الإدارة وكنت مسؤولا عن شؤون النزلاء، ومسؤوليتي تتعلق بكل شؤون النزلاء بما فيها الزيارات، وأذكر في ذلك العام أن الرئيس نميري اعتقل مجموعة من الشيوعيين في يوليو بسجن الأبيض واشتهروا بمعتقلي (حركة يوليو) وعددهم كان كبيرًا. وبعد خمسة أشهر من الاعتقال وبالتحديد في يوم (19) نوفمبر (1971م) سمحت سلطات الأمن لذوي المعتقلين بزيارة في الفترة من التاسعة إلى الواحدة ظهرًا وقد توافد أهل المعتقلين وأذكر أن الشاعر (محمد حامد آدم) وعكس توقعه لم يزره أحد في ذلك اليوم!، وبعد انتهاء زمن الزيارة بدقائق جاءت فتاة في مقتبل العمر ــ احتفظ باسمها ــ وطلبت زيارة الشاعر إلا أنني رفضتُ طلبها بحجة انتهاء الزمن وحاولت إقناعها بأني لست المعني بالأذونات بعد انتهاء الزمن وعليها أن تذهب إلى جهاز الأمن للحصول على إذن، وظلت تترجَّى ودموعها على خديها ولم أستجب لطلبها. وبعد ذلك علم الشاعر بأني حرمته وحرمتها من الزيارة فأوقفني عند زيارة التفقد التي نمر فيها كل يومين من الصباح على النزلاء لتفقُّد أحوالهم وطلب مني أن أقابله ولم أعرف أنه شاعر وهو من شباب شمال كردفان، وقال لي: لو سمحت أنا عايزك في موضوع خاص بالمكتب.. فقلت له: أنتهي من المرور وسوف أرسل لك لمقابلتي.. وبالفعل جاءني يحمل ورقة بلون رمادي من دفتر خطابات مسطَّر وملوَّن وقال لي: يوم الأربعاء جاءتني زيارة وأنت منعتها من مقابلتي.. وكان يتحدث بأدب شديد وبحسرة صادقة فقلت: نعم فأعطاني الورقة وقرأتها ووجدت فيها نصًا شعريًا يخاطبني به ويقول فيه:
صبرك لحظة واحدة
إذنك مرة واحدة
يا ضابط السجن
أزّود بنظرة
وأرجع أنسجن
خمسة شهور طويلة
مرت ليلة ليلة
ودمعة شوق هميلة
ورى الدمعة الهميلة
تسرح شايله حالي
وتكتب فى مثيله
قصة وردة جفت
من فرق الخميلة
يشلع نور بسيمة
وده ينير الوجن
ما يحلى دوام فريحو
وده الما فيه ظن
بتحكي حنين مغرد
ده بلبل ساب عشيشو
وراح ولهان يردد
شوق الطير لي ريشو
وشوق لي النادي خدو
لي البجرح رميشو
لجاهلا بعذب صدو
ويحلى طيفو
طيب نفسو طيبه
حبيب كلو طيبه
فرحان بي شبابو
كامل حسنو هيبه
والأنظار تهابو
ده لين ني صغير
زي الزهرة دابو
وبي بلور أصابو
بصفح كتابو
ما تسمح لي أشوفو أشوفو
يا ضابط السجن
والله انتظر يخالف والحرمان علم
حنين وشوق
ويواصل ضابط السجن: قرأتُ الأبيات بتمعُّن ولا أنكر أنها مسَّت وجداني لأنها مليئة بالحنين والشوق والترجي، وأجمل ما فيها أنها لم تستنكر الوجود داخل السجن بقدر ما عبَّر الشاعر عن دواخله. وقال: أسمح لي اشوفو اتزوَّد بنظرة وارجع انسجن، ومن ذلك نرى أنه لا يعترض على السجن في حدّ ذاته رغم أنه دخله بريئاً!
تطابق أسماء
عند سؤالي ضابط السجن كيف دخل شاعرنا السجن وهو بريء؟ قال إن الشاعر محمد حامد آدم لا علاقة له بالشيوعيين ولا حركة يوليو بل تطابق اسمه مع شخص آخر كان مطلوباً وهذا ما علمته في وقت سابق وقد سمعت عن أعماله الشعرية الجميلة خاصة قصائد الجهاد والحماسة، وله ديوان شعر في هذا الخصوص وعلمت أنه من الذين خرجوا مع المجاهدين في العديد من النفرات، وقال: منذ ذلك الحين لم التقه وأتمنى أن أجده. ويواصل المقدم يحيى حديثه عن ذكريات ضابط السجن ويقول إنه بعد أيام في الأبيض سمعت المطرب الشاب وقتها (عبد الرحمن عبد الله) يردِّد في الأغنية، وأخبرني البعض بأنني المعني بالأغنية فقلت لهم لست طرفاً في الرواية وإن كنت المعني بالخطاب، وقد سمعتها كبقية الناس.
صبرك لحظة واحدة
سألنا المقدم يحيى عن الشعور الذي ينتابه عندما يسمع هذه الأغنية فقال إنها تجتر به ذكريات جميلة وتعيد له تلك المواقف التي لا ينساها وقال: (بترجع لي الفيلم دا كلو) فاسمعها بغير سماع الآخرين وقد أخبرت بها أبنائي الذين حفظوها عن ظهر قلب ويحتفظون بها على هواتفهم بل أحيانًا عندما يريدون طلبًا مني يتوقعون رفضه فيبادرون بقولهم: (صبرك لحظة واحدة وإذنك مرة واحدة)..



الانتباهة
امسح للحصول على الرابط
 3  0  9233

تصميم وتطوير  : قنا لخدمات الويب

Powered by Dimofinf CMS v5.0.0
Copyright© Dimensions Of Information.

جميع الحقوق محفوظة لـ "كفر و وتر" 2019